“ قد لا تكون مهتمًا بالجغرافيا السياسية، ولكن الجغرافيا السياسية مهتمةٌ بك ”
—تصريحٌ صدر في أكتوبر 2023 عن أعضاء تحالف "العيون الخمس" الاستخباراتي الخاص بقادة الشركات الغربية متعددة الجنسيات.
كانت الظروف الجيوسياسية دائمًا ما تؤثر على نجاح المؤسسات، إلا أنه منذ نهاية الحرب الباردة، ومع تغير أولوياتها بشكلٍ ملحوظ، باتت المؤسسات تُركّز بشكلٍ أكبر على القضايا الاقتصادية الكُبرى، والتخطيط الاستراتيجي، وتحسين العمليات التشغيلية.
غير أن الأمر لم يعُد كما كان في السابق.
تشير أحدث استطلاعات ماكنزي حول الأوضاع الاقتصادية العالمية إلى أن التوترات الجيوسياسية أصبحت تُمثّل التحدي الأبرز لقادة الأعمال في الوقت الحالي، خاصةً فيما يتعلق بتحقيق أهداف النمو الاقتصادي. ومع تصاعد الصراعات الإقليمية وتزايد الخلافات التجارية الدولية، تواجه الشركات متعددة الجنسيات ضغوطًا كبيرة تتطلب من هذه الشركات التحلّي بالمرونة العالية والقدرة على التكيف مع الظروف الاقتصادية المُضطّربة لضمان استمرارية أعمالها وتعزيز استراتيجياتها المستقبلية. فعلى سبيل المثال، منذ عام 2017 ارتفعت التعريفات الجمركية على السلع المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين إلى ستة أضعاف، كما ازدادت التدخلات التجارية على المستوى العالمي بمعدل 12 ضعفًا منذ عام 2010.1 الأمر الذي يُبرز حجم التحديات المتنامية في بيئة الأعمال الدولية.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
إنّ الرؤساء التنفيذيين وأعضاء مجالس الإدارات يُدركون تمامًا ما يشهده النظام العالمي اليوم من تحولاتٍ كبيرة.2 ومع ذلك، فلا يزال الكثيرون منهم لم ينتبهوا بعد إلى أن أهمية هذه التحولات الجيوسياسية لا تكمُن فقط في تخفيف مخاطرها، بل في الفرص التي تحملها في طياتها ويجب اغتنامها.
ونظرًا للمسؤوليات الكبيرة التي يتحملها قادة الأعمال، فمن الطبيعي أن ينصب اهتمامهم بشكلٍ رئيسي على المخاطر النّاجمة عن تحولات المشهد الجيوسياسي، مما يدفعهم إلى طرح العديد من التساؤلات مثل: ما مدى تأثير هذه التحولات على منتجاتي وتعاملاتي؟ وكيف يختلف هذا التأثير حسب المناطق الجغرافية؟ وما هي المناطق المناسبة والتوقيت الملائم لتغيير الموردين، لضمان استمرارية الإمدادات؟ بالإضافة إلى ذلك، فقد يطرأ على أذهانهم تساؤلٌ يتعلق بنسبة احتياج القوة العاملة إلى تأشيرات العمل، ومدى تأثير صعوبة الحصول عليها على إنتاجية المؤسسات في بعض المناطق حول العالم؟
لقد أصبح من الضروري أن تضع المؤسسات خططًا تُمكّنها من إدارة المخاطر والتفاعل مع آثارها السلبية المحتملة بمرونة. في الوقت ذاته، يجب على قادة الأعمال التركيز على استثمار الفرص التي تُسهم في خلق قيمةٍ مضافة ونموٍ مستدام، مع الحرص على عدم المبالغة في المخاطرة. ذلك الأمر يتطلب اتخاذ عدة خطواتٍ حيوية، مثل تعديل استراتيجيات وخطط النمو، وتحسين العمليات الأساسية والأنشطة اليومية، فضلًا عن أهمية إدارة وتوزيع المواهب وأصحاب المهارات بشكلٍ جيد. وهناك المزيد من الخطوات التي لا تقل أهميةً عن سابقتها، كدمج التقنيات الحديثة في بيئة العمل، وإعادة تقييم استثمارات المؤسسة في الأصول الرأسمالية، إلى جانب تطوير الهيكل التنظيمي. فهذه الخطوات وتكاملها معًا هو ما يسهم في دفع المؤسسة نحو الازدهار والنمو بدلًا من مجرد السعي للبقاء في مواجهة التحديات.
كما يجب أيضًا على قادة الأعمال أن يسألوا أنفسهم بعض الأسئلة الهامة، مثل: بعد فرض الرسوم الجمركية والضرائب الجديدة، هل ستكون منتجات منافسينا أكثر أم أقل تكلفةً من منتجاتنا؟ كيف ومتى يمكننا التكيُّف مع تدفقات التجارة إلى الأسواق الجديدة لنضمن التواجد الأمثل؟ وما هي التحالفات الاقتصادية والأمنية الجديدة التي يمكن أن تفتح لنا أبوابًا للنمو أو تسمح بتغيير هيكل التكاليف لدينا؟ ما هي الحوافز الصناعية التي تُقدمها الحكومات والتي يمكن أن تدعم نمونا بشكلٍ كبير؟ كيف تتم مراجعة تكلفة رأس المال المُعدَّلة بحسب المخاطر في المناطق الجغرافية المختلفة؟ وما هي الطرق المُثلى لاستثمار رأس المال في بيئاتٍ اقتصاديةٍ متنوعة؟
عندما تُوجّه المؤسسات اهتمامها نحو خلق القيمة أثناء التعامل مع التحديات الجيوسياسية، بدلًا من اكتفائها بالتركيز على المخاطر فقط، فإنها تفتح آفاقًا لتحقيق مكاسب استثنائية تُعزّز من مكانتها وتنافسيتها في الأسواق العالمية. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
- يُعد إقدام إحدى الشركات المتخصصة في مجال الأجهزة الطبية، والتي تعمل بأمريكا الشمالية، على نقل عمليات التصنيع وسلسلة التوريد الخاصة بها من إحدى الدول أخرى إلى المكسيك، للاستفادة من المزايا التي توفرها اتفاقيات التجارة الإقليمية، قرارًا حاسمًا. إذ من المنتظر أن يؤدي ذلك لخفض تكاليف التشغيل بنسبةٍ تتراوح بين 15 إلى 25 في المائة، ومن المتوقع أن يُعزز ذلك أيضًا من قدرة الشركة على مواجهة التحديات اللوجستية ويزيد من مرونة عملياتها التشغيلية.3
- من المُرجح أن تحقق شركةٌ للمدفوعات مع دخولها منطقة آسيا والمحيط الهادئ إيراداتٍ إضافية تصل إلى 1.5 تريليون دولار، بحلول عام 2027.4
- يُمكن لشركةٍ تعمل في مجال أشباه الموصلات أن تزيد من حصتها السوقية بمقدار 47 مليار دولار،5 وذلك عن طريق تعديل استراتيجيتها الخاصة بالمبيعات والتسويق لتستهدف السوق الممتد بين تايوان وسنغافورة.
وعلى العكس من ذلك، قد يقع العديد من قادة الأعمال في فخ التركيز المفرط على الجوانب السلبية والمخاطر المحتملة التي قد تكون نادرة الحدوث، ولكن لها بالغ الأثر، مما يُعيق قدرتهم على استكشاف الفرص الجديدة والاستفادة من تغيرات المشهد الجيوسياسي. لذا، من الأفضل لهم تبنّي استراتيجيات عملٍ تعتمد على المراجعة الشاملة والتقييم المستمر لجميع العوامل المؤثرة في قيمة الأعمال أو الاقتصاد بما في ذلك السياسات التجارية، والاقتصادية، والصناعية، بالإضافة إلى مجالات الدفاع والأمن (الشكل 1). على سبيل التوضيح، قد تشمل هذه العوامل التغيرات في الرسوم الجمركية، الإعانات الحكومية التي تدعم السياسات الصناعية الوطنية، والاتجاهات الاستثمارية التي تركز على تعزيز التعاون مع الحلفاء الجيوسياسيين في مجالاتٍ مثل سلاسل التوريد، وإدارة وتوزيع المواهب والمهارات، وتوزيع رأس المال، والتكنولوجيا والبيانات، وغيرها من المجالات التجارية ذات الأهمية. فهذا المنهج، يتيح للشركات الاستفادة من تحولات المشهد بطريقةٍ أكثر شموليةً لتعزيز قدرتها التنافسية.
في هذه المقالة، سنستعرض أهم العوامل المؤثرة في خلق القيمة، ونناقش أهمية التحرك الاستباقي من قبل الشركات لمواجهة التحديات الجيوسياسية، وكيف يساعد هذا التحرك الاستباقي الشركات في حماية عملياتها الحالية. كما سنلقي الضوء على كيفية استغلال الفرص المتاحة في مختلف الأسواق الجغرافية والقطاعات الصناعية المتنوعة.
كيف يساهم التحرك الاستباقي في خلق القيمة وتعزيزها رغم التحديات الجيوسياسية
قامت العديد من الشركات بتعديل استراتيجياتها وهياكلها التنظيمية لتتماشى مع التغيرات الحالية في البيئة العالمية. ونتيجةً لذلك، أقدم الكثير من الشركات على تعيين مسؤولين متخصصين في الشؤون الجيوسياسية، وإنشاء وحداتٍ متخصصة في جمع وتحليل المعلومات في الجغرافيا السياسية، والمعروفة بوحدات الاستخبارات الجيوسياسية، والمعنية بتقديم تحذيراتٍ مبكرة بشأن الأحداث التي قد تؤثر على سير الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، فقد طوّرت الشركات خطط استجابةٍ مرنة، تُمكّن الرؤساء التنفيذيين من اتخاذ قراراتٍ حاسمة في الأوقات الحرجة وأثناء الأزمات، مع التركيز على حماية سلاسل التوريد من المخاطر الخارجية.
في الوقت الذي تتعامل فيه العديد من الشركات مع الاضطرابات العالمية كتهديداتٍ تستوجب تقليل آثارها أو تجنبها، تنتهج بعض الفِرق القيادية الأكثر تطورًا مسارًا أكثر جرأةً وطموحًا. فهي تسعى لتحويل تلك التحديات إلى فرصٍ حقيقيةٍ لخلق القيمة، وذلك من خلال توجيه تركيزها نحو ثلاثة مجالاتٍ رئيسية، هي: تسريع النمو عبر استغلال الفرص المتاحة؛ وتحسين العمليات التجارية؛ وأخيرًا، تطوير القدرات والاستراتيجيات للتعامل مع الاضطرابات والأزمات العالمية بسرعةٍ ومرونةٍ أكبر.
تسريع وتيرة التنمية
ليتمكّن قادة الأعمال من تعزيز قدرتهم على اتخاذ قراراتٍ استثمارية أكثر دقةً، وتحقيق الاستفادة من الفرص التجارية وسط هذه العاصفة من التوترات العالمية المتصاعدة، عليهم تبني رؤيةً أوسع لمفهوم النمو، بحيث لا تقتصر رؤيتهم على تطوير الأعمال فقط، بل تمتد لتشمل فهمًا متعمقًا لمصالح العملاء وتحركات المنافسين، وذلك عن طريق تحليل مجموعةٍ متنوعةٍ من سيناريوهات النمو المستندة إلى تطبيق العوامل العشرة التي تم تحديدها في الشكل 1. فعن طريق هذا النهج الشامل، قد يكتشف القادة فرصًا لتسريع النمو التجاري أو حتى لإعادة ترتيب أولويات استثماراتهم بما يتماشى مع التحولات العالمية المستمرة.
تسريع نمو الأعمال التجارية. مع تغير المشهد الجيوسياسي، تبرز أمام الشركات فرصٌ جديدة لتوسيع نطاق أعمالها وزيادة حصتها السوقية. فمثلًا، قد يؤدي فرض تعريفاتٍ جمركيةٍ جديدة على أحد المنافسين إلى ارتفاعٍ كبير في تكلفة منتجاته، مما يُفسح المجال أمام الشركات الأخرى لتقديم أسعارٍ أكثر تنافسيةً. كما أن اتفاقيات التجارة الجديدة قد تفتح أبوابًا لأسواقٍ طالما كانت مغلقةً في السابق، مما يمنح الشركات فرصًا للتوسع والاستفادة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة "Caterpillar"، التي نجحت في تعزيز مبيعاتها في كلٍ من أستراليا وتشيلي، بفضل اتفاقيات التجارة الحرة الموقعة بين البلدين والولايات المتحدة، والتي مكّنت الشركة من الوصول إلى تلك الأسواق بفعاليةٍ وكفاءة.6
شهدت ممرات التجارة العالمية تحولاتٍ جذرية أعادت تشكيل ملامح الصناعات وأسواق التبادل التجاري عالميًا. وتؤكد بيانات صندوق النقد الدولي أن أبرز مسارات التجارة الدولية، لاسيما بين الصين والولايات المتحدة، قد شهدت تغييرات كبيرة خلال الفترة من 2021 إلى 2023. كما هو موضح في (الشكل 2).
وتشير أبحاثٌ حديثة إلى تراجعٍ ملحوظ في صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الصين، فقد انخفض من 344 مليار دولار في عام 2021 إلى 42.7 مليار دولار في عام 2023، في أدنى مستوىً له خلال ثلاثة عقودٍ كاملة7.7 ويُرجِّح المحللون تسارع وتيرة إعادة توجيه الاستثمارات خلال العقد المقبل.8 مما يُحتّم على قادة الأعمال تتبع الوجهات الجديدة للاستثمارات وفهم انعكاساتها على الأسواق العالمية والاستراتيجيات المستقبلية.
إعادة التوازن للمحافظ الاستثمارية. في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة التي تشهدها الأسواق العالمية، باتت الحاجة إلى إعادة توازن المحافظ الاستثمارية ضرورةً ملحة. فبينما تتراجع بعض القطاعات التي كانت تُعتبر من أكثر القطاعات استقرارًا ونموًا، لتبرُز فرصٌ جديدة في قطاعاتٍ أخرى طالما تم تجاهُلها في السابق. إنّ تحولًا كهذا يتطلب من قادة الأعمال فهمًا عميقًا للديناميكيات الاقتصادية المتغيرة، والقدرة على تحديد القطاعات الواعدة والاستثمار فيها. ويتضمن ذلك إعادة تخصيص الموارد المالية نحو المجالات التي تتمتع بآفاق نموٍ قوية ومخاطر أقل، مع حتمية التخارج من الاستثمارات الأقل جدوى. ويمكن تحقيق هذا التوازن في المحفظة الاستثمارية من خلال تبنّي استراتيجياتٍ مرنة، مثل عمليات الاندماج والاستحواذ وبناء الشراكات الاستراتيجية، والتي من شأنها تعزيز القدرة التنافسية في بيئة أعمال مليئةٍ بالتحديات.
لعل من أبرز الأمثلة على إعادة توازن المحافظ الاستثمارية في ظل التحديات الجيوسياسية والتنظيمية، ذلك النهج الاستباقي الذي اتبعه أحد صناديق الاستثمار الخاصة. فبدلًا من انتظار حدوث الأزمات، قام الصندوق بتحليل مخاطر محفظته الاستثمارية بشكلٍ استباقيٍ ودقيق، وقام بتحديد الشركات الأكثر عرضةً للتأثر بالأوضاع السياسية، وعمل على نقل أنشطتها إلى مناطق أكثر استقرارًا وأمانًا. كما أولى اهتمامًا خاصًا بالمنتجات ذات الاستخدام المزدوج، وهي المنتجات التي يُمكن توظيفها في الأغراض التجارية والعسكرية على حدٍ سواء، والتي قد تكون عرضةً لتشديد اللوائح الدولية. لم يكتفِ الصندوق بذلك، بل عمل على تقليل أثر تلك اللوائح التنظيمية، بنقل عمليات التصنيع الخاصة بالمنتجات ذات الاستخدام المزدوج إلى بيئاتٍ تنظيمية أكثر مرونةً تقل فيها القيود على هذه المنتجات.
وفي مثالٍ آخر على المرونة الاستثمارية في مواجهة التحديات العالمية، ما قامت به إحدى شركات الألبان الرائدة. فقد استشرفت الشركة المستقبل بتحليلٍ دقيق للسيناريوهات المحتملة خلال العقد المُقبل، مستندةً إلى الاتجاهات العالمية. وبمقارنة هذه السيناريوهات مع محفظتها الحالية من المنتجات ومواقع التصنيع والبيع، تمكنت الإدارة العُليا من اتخاذ قرارٍ حاسمٍ ببيع وحدةٍ للأعمال لم تعُد تتماشى مع فرص النمو المستقبلية. وقد تم توظيف عائدات البيع لتعزيز الاستثمارات في مناطق أخرى واعدة، مما أدى إلى زيادةٍ ملحوظة في قيمة سهم الشركة بأكثر من 10 في المائة خلال السنة المالية التالية.
لم يعُد الهدف الرئيسي من إعادة توازن المحافظ الاستثمارية قاصرًا على تقليل المخاطر، بل أصبح يتمحور حول تحقيق مكاسب ملموسة عبر تبني استراتيجياتٍ مبتكرة، منها التحوُّط الماليّ، وضبط كثافة رأس المال، وتعزيز احتياطات السيولة، وتنفيذ سياسات التوطين الملائمة. وهو النهج الذي مكّن إحدى شركات السيارات العالمية من تحقيق فائضٍ سنوي بلغ 15 مليون دولار بالاعتماد على استراتيجية تحوطٍ متقدمة، تضمنت تقليص التحوط من الميزانية العمومية بنسبة 50 في المائة، إلى جانب اعتماد الشركة لخياراتٍ ماليةٍ منخفضة التكلفة، مما أدّى إلى تحسين كفاءة إدارة الموارد. إضافةً إلى ذلك، كشفت المراجعات امتلاك الشركة احتياطات سيولةٍ تتجاوز احتياجاتها الفعلية، وهو ما دفعها إلى إعادة توظيف ذلك الفائض والبالغ قيمته مليار دولار لسداد الديون، وتقليل تكاليف التحوُّط، وزيادة الديون العائمة. جاءت هذه الاستراتيجية المبتكرة نتاجًا لوعي الإدارة العُليا للشركة بمدى تأثير العوامل الجيوسياسية على الاستراتيجيات المالية والتجارية، مما دفع الشركة إلى اتخاذ مثل تلك الخطوات التي تُعد نموذجًا عمليًا لكيفية تحويل التحديات إلى فرصٍ تدعم الاستقرار المالي وتعزز النمو.
تحسين العمليات التجارية الأساسية
لتحقيق المرونة والنمو في بيئةٍ جيوسياسية متقلبة، يتعين على قادة الأعمال إجراء تقييمٍ شامل لكافة جوانب أعمالهم. يشمل هذا التقييم دراسة تأثير التحولات الجيوسياسية على العمليات التجارية الأساسية، مع التركيز على إدارة التكاليف. فمن خلال تحسين العلاقات مع الموردين، وجذب المواهب العالمية، وتطوير البنية التحتية التكنولوجية، يمكن للشركات تحقيق توازنٍ دقيق بين تقليل النفقات وضمان الكفاءة التشغيلية، مما يعزز قدرتها على التكيف مع التغيرات المستمرة.
المواقع التشغيلية. يُعتبر اختيار المواقع التي تُجرى فيها أنشطة التصنيع والتخزين وتقديم الخدمات للعملاء من أهم القرارات الاستراتيجية التي يتعين على قادة الشركات اتخاذها، لما لها من تأثيرٍ جوهري على مسار الشركة ونموها المستقبلي. وفي هذا الإطار، تلعب العوامل الجيوسياسية دورًا محوريًا في فتح آفاق جديدة للنمو وتعزيز القدرة التنافسية. على سبيل المثال، خصصت شركة "Samsung" مبلغًا قدره 2 مليار دولار لتوسيع قدراتها الإنتاجية في فيتنام، والتي وقع الاختيار عليها كموقعٍ جديد نظرًا لما تقدمه من ميزاتٍ جاذبةٍ للاستثمار، منها اتفاقيات التجارة الحرة مع عددٍ كبيرٍ من الدول، وتكاليف العمالة التنافسية، إضافةً إلى موقعها الاستراتيجي القريب من المراكز اللوجستية الكبرى.9 على الجانب الآخر، قامت شركة "Apple"، والتي اعتمدت تاريخيًا على الصين كمركزٍ رئيسيٍ للتصنيع، بتنويع مواقعها التشغيلية بالتوسع في مناطق أخرى كالهند. لم يأت هذا القرار لتحسين مرونة سلاسل التوريد فحسب، بل أيضًا للاستفادة من انخفاض تكاليف التشغيل والعمالة في الهند، إلى جانب استغلال فرصة الوصول إلى أسواقٍ جديدة.10
سلاسل الإمداد. تسببت الأحداث الجيوسياسية الأخيرة في اضطراباتٍ ملحوظة في سلاسل الإمداد العالمية مما أدى إلى إغلاق العديد من المنشآت، ودفع عددٍ من قادة تلك السلاسل إلى تنويع مصادرهم من الموردين، وعدم الالتزام بنظام الطلب والتسليم في الوقت المحدد. بينما لجأ البعض لتخزين المدخلات والمواد الأساسية لتفادي التأثيرات المستقبلية لأي اضطرابات، وذلك بفضل استخدام بعض التقنيات المتقدمة التي تُمكّنهم من التنبؤ بالاضطرابات الجيوسياسية المستقبلية وتتيح لهم فرصةً بالاستعداد والتحضير لها.
على سبيل المثال، قامت إحدى شركات السلع الاستهلاكية المعبأة بإنشاء "توأم رقمي" لمحاكاة سلسلة الإمداد الخاصة بها، بهدف التكيف مع المتغيرات الطارئة على شبكة إمداداتها الأساسية. وبفضل هذه التقنية المتطورة نجحت الشركة في تحليل التأثيرات المحتملة على عملياتها بشكلٍ شامل، واتخاذ خطواتٍ استراتيجيةٍ سريعة من بينها تقليل الاعتماد على مواقع التصنيع الخارجية، وتعزيز كفاءة استخدام المساحات التخزينية، إضافةً إلى تطوير مهارات القوى العاملة وتنويع شركات النقل التي تتعاون معها. وقد أسهمت هذه الإجراءات مجتمعةً في تحسين مرونة الشركة، وخفض تكاليف التشغيل، فضلاً عن تعزيز فرص النمو المستقبلي بشكلٍ ملحوظ.
وتسعى بعض الشركات الأخرى للاستفادة من السياسات الحكومية التي تقدمها بعض الدول كحوافز لدعم الإنتاج المحلي أو توطين سلاسل الإمداد لديها. وهو ما قامت به شركة "Tesla" للسيارات الكهربائية، التي عملت على الاستفادة من الاعتمادات الضريبية التي أتاحها قانون خفض التضخم الأمريكي لعام 2022 تعزيزًا لقوتها الإنتاجية. وقد نجحت الشركة بفضل تلك الحوافز في توفير المواد اللازمة للتصنيع من الأسواق المحلية، كما تمكّنت من نقل جزءٍ من عملياتها التصنيعية من ألمانيا إلى الولايات المتحدة.11 وفي سياقٍ مشابه، طرحت المكسيك مؤخرًا حزمةً من الحوافز الضريبية بهدف جذب الشركات العالمية للعمل داخل البلاد، كخطوةٍ هامة لدعم الصناعات المحلية وتعزيز الاقتصاد المكسيكي.12
إدارة المواهب وتوزيعها. تُشكّل التوترات الجيوسياسية تحديًا كبيرًا لإدارة القوى العاملة العالمية خاصةً الموهوبين منهم، فقد تُعيق التعاون بين الموظفين أصحاب الثقافات والجنسيات المختلفة، مما يؤثر سلبًا على الأداء العام للمؤسسات. ومع ذلك، يمكن للشركات اتخاذ خطواتٍ استباقية لتخفيف المخاطر الناجمة عن مثل هذه الظروف. ومن أهم هذه الخطوات، إجراء تحليلٍ شامل لتوزيع الموظفين ذوي المهارات والخبرات المميزة، لتحديد المناطق التي تتركز فيها تلك المواهب، والعمل على إعادة هيكلة توزيع الموارد البشرية بما يعزز التوازن بين وظائف الشركة المختلفة. كما يمكن للشركات توطين بعض الوظائف الأساسية، مثل إدارة الموارد البشرية ودعم تكنولوجيا المعلومات، بما يضمن استمرارية العمليات التشغيلية ويُحسّن القدرة على التكيّف مع التحديات العالمية.
وهنا تجدر الإشارة لما قامت به شركة "Egis" الفرنسية، المتخصصة في الهندسة والبناء، والتي تعمل في أوكرانيا منذ عام 1993، حيث نجحت في الحفاظ على استمرارية عملياتها هناك رغم النزاع الجيوسياسي الأخير في أوكرانيا، وذلك عبر التحوّل السريع إلى نموذج العمل عن بُعد.13
لقد أصبح التحليل الجيوسياسي أحد الأدوات الأساسية التي يمكن للشركات الاعتماد عليها لتقييم تأثير الأزمات العالمية على عملياتها التشغيلية. لذا، قام أحد البنوك العالمية بالاعتماد عليه لتقييم توزيع خدماته ومراكز الاتصالات الخاصة به في عدة مناطق جغرافية. وجاءت نتائج التحليل لتُظهر مدى صعوبة العثور على أصحاب المهارات وتوظيفهم في بعضٍ من تلك المناطق. كما كشفت النتائج أيضًا عن توقعاتٍ بزيادة تكلفة ممارسة الأعمال في هذه الدول بسبب التغيرات المرتقبة في اتفاقيات التجارة العابرة للحدود. وبناءً على هذه النتائج، قررت الإدارة التنفيذية للبنك بنقل الموظفين من المناطق التي تفرض قيودًا صارمة على التأشيرات والتجارة، وإعادة توزيعهم في مناطق أكثر أمنًا وأقل عرضةً للمخاطر.
ومع استمرار تزايد الطلب على الكفاءات العاملة في مجال التكنولوجيا الرقمية، والذي يفوق حجم المعروض، تتجه العديد من الشركات إلى توظيف العمالة الوافدة. غير أن ذلك الأمر قد يُعرّضها لمخاطر أخرى من بينها التعديلات المحتملة في قوانين الهجرة والتأشيرات. ولتفادي هذه العقبات، لجأت بعض الشركات لإنشاء مراكز تشغيلية في دولٍ تشتهر بوفرةٍ في المواهب الرّقمية مثل الهند والمكسيك والفلبين وبولندا، مستفيدةً بذلك من الحوافز الحكومية التي تُشجع على نقل الكفاءات إليها. هذه الاستراتيجيات لا تسهم فقط في استدامة العمليات التشغيلية، ولكنها تتيح أيضًا للشركات فرصًا أكبر للتوسع في بيئات أعمالٍ أكثر استقرارًا.
التكنولوجيا والبيانات. مع التوسع المستمر للأعمال، لا سيما بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات عابرة الحدود، أصبحت البنية التكنولوجية عنصرًا أساسيًا في إدارة العمليات اليومية بما يشمل التعامل مع كمياتٍ هائلةٍ من البيانات التي تتطلب تقنياتٍ متقدمةٍ لإدارتها بكفاءة. غير أن هذا الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا يجعل الشركات عرضةً لمخاطر عدة، أبرزها الهجمات الإلكترونية، وسرقة الملكية الفكرية، بالإضافة إلى الآثار المترتبة على التشريعات الصارمة المتعلقة بتوطين البيانات، والتي قد تعيق تدفق المعلومات بشكلٍ كبير. علاوةً على الاضطرابات المحتملة الناجمة عن النزاعات التجارية واختلاف اللوائح التنظيمية والقوانين المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات في مختلف أنحاء العالم. كل هذه العوامل تساهم في خلق بيئةٍ غير مستقرة للأعمال مما يجعل من الحتمي على الشركات تبني استراتيجياتٍ مرنة وشاملة تُمكّنها من التكيف مع التغيرات المتسارعة لضمان استقرار عملياتها.
لذا، يجب على قادة تكنولوجيا المعلومات إجراء تقييمٍ دوريٍ لشبكة التكنولوجيا والبيانات لديهم، بما في ذلك البيانات المرتبطة بمقدمي الخدمات من الأطراف الثالثة. إذ يُعد هذا التقييم المستمر أداةً لا غنى عنها للتكيف مع التغيرات التي قد تؤثر على سير العمل. على وجه المثال، اتخذت شركة "Google" خطوةً استراتيجيةً ببناء مراكز بياناتٍ لها في فنلندا، للاستفادة من الطاقة النظيفة والمتجددة، مما أسهم في تحقيق أهدافها البيئية المتعلقة بالاستدامة وتقليل الانبعاثات الكربونية إلى أدنى مستوياتها.14 وفي سياقٍ مشابه، تسعى ماليزيا لجذب شركات التكنولوجيا العالمية، مثل "جوجل" و "مايكروسوفت"، لإنشاء مراكز بياناتها داخل البلاد. ولتحقيق هذا الهدف، قدّمت الحكومة الماليزية حوافز ضريبية مميزة، وأطلقت مبادراتٍ طموحة لتعزيز وتسريع التحوُّل الرقمي في البلاد.15
القدرات والاستراتيجيات اللازمة للتعامل مع الاضطرابات الجيوسياسية
في عالمنا المتغير، أصبحت التحديات الجيوسياسية جزءًا لا يتجزأ من المشهد الذي تواجهه الشركات. ورغم أهمية إدراك قادة الأعمال للتأثيرات المحتملة لهذه التحديات على الأسواق والاقتصادات، سلبيةً كانت أم إيجابية، إلا أن هذا الوعي وحده لا يكفي. ولتحقيق النجاح المنشود يجب أن يتم تدعيم هذا الوعي بأدواتٍ وقدرات تُمكّن الشركة من مواجهة هذه التحديات، بما في ذلك تبنّي استراتيجياتٍ شاملة تأخذ بعين الاعتبار العوامل الجيوسياسية، سواء كانت تهديداتٍ أم فرص. إلى جانب المرونة في تصميم هياكل رأس المال، والتي تلعب دورًا حاسمًا في تقليل المخاطر المرتبطة بالتغيرات العالمية.
تبنّي الشركات رؤيةً استراتيجيةً واسعة النطاق. من الضروري أن تتبنى الشركات منظورًا استراتيجيًا أكثر شموليةً. فبعد أن كانت تركز على البيئة التشريعية والتنظيمية المحلية، باتت اليوم بحاجةٍ ماسّة إلى إدراج المخاطر الجيوسياسية ضمن أولوياتها. فالترابط المتزايد بين الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية يجعل الأحداث الجيوسياسية تؤثر بشكلٍ مباشر على أداء الشركات، خاصةً تلك العاملة في أسواقٍ متعددة. فالتوترات التجارية، والصراعات الإقليمية، والتغير في توازنات القوى الدولية، كلها عواملٌ قد تُحدث تقلباتٍ كبيرة في بيئة الأعمال. لذلك، يجب على قادة الشركات اتباع نهجٍ استباقي يدمج التحليل الجيوسياسي في عملية صنع القرار الاستراتيجي، مع الحرص على إشراك مجالس الإدارة في مناقشة هذه القضايا المعقدة.
وفي الوقت ذاته الذي يبدأ فيه القادة بتحليل وتقييم التحولات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية المحتملة، عليهم الإجابة على مجموعةٍ من التساؤلات الهامة مثل: ما هي نقاط الضعف التي تكشف عنها هذه التحولات؟ وكيف يمكن سد الفجوات الموجودة في القدرات لتحقيق النمو المنشود؟ وما هي فرص النمو التي تكشف عنها هذه التقييمات؟ وما هي القرارات الاستراتيجية التي يجب تعديلها لمواكبة التغيرات السياسية أو الاقتصادية؟ وما هي القيمة المحتملة التي يمكن تحقيقها في ظل السيناريوهات المختلفة؟ وفي هذا السياق علينا ألا نغفل الانتباه لطبيعة الاستثمار الذي تعمل فيه الشركة، حيث تتطلب بعض الاستثمارات الكُبرى مثل مشاريع الطاقة والمناجم أو مصانع أشباه الموصلات رؤيةً بعيدة المدى، فهذه المشاريع ليست مرتبطةً بالحاضر فقط، بل تمتد لعقود. لذا، من الضروري أن تراعي الاستراتيجية دورة الحياة الطويلة لمثل هذه الاستثمارات وتأثيراتها على استدامة الأعمال، بغض النظر عن تعاقب الحكومات وتغير السياسات.
إنّ مدى تأثير التغيرات الحالية في السياسات يعتمد بالأساس على قرارات الشركة الاستراتيجية ومدى استعدادها لتحمُّل المخاطر. فبينما تتبع بعض الشركات نهجًا جريئًا وتنظر إلى هذه التحولات على أنها فرصٌ محتملة ذات إمكانات نموٍ هائلة، تُفضّل شركاتٌ أخرى تبني سياساتٍ أكثر تحفظًا لتقليل المخاطر من خلال سياساتٍ تأمينيةٍ فعالة. ولضمان اتخاذ قراراتٍ استراتيجيةٍ مدروسة، يلجأ القادة للاستعانة ببعض الأدوات مثل تخطيط السيناريوهات وتمارين المحاكاة، التي تضع المشاركين في مواقف افتراضية تحاكي تعقيدات الواقع الفعلي، مثل اندلاع صراعاتٍ إقليمية، أو تهديداتٍ أمنية، أو تغيراتٍ في السياسات الجمركية والصناعية. إنّ هذه الممارسات لا تُركّز على التنبؤ بما قد يحدث، بل تهدف إلى إعداد القادة للتعامل مع التحديات واتخاذ قراراتٍ فاعلة بناءً على ما يمكن التحكم فيه.16
ضمان استمرارية الشركات متعددة الجنسيات في المستقبل. مع تزايد الحواجز التجارية وغير التجارية على المستوى العالمي، باتت الشركات متعددة الجنسيات أكثر عرضةً للمزيد من التحديات التي قد تؤثر على استمراريتها ونموها. وهو ما يتطلب منها اعتماد استراتيجياتٍ استباقية تتيح لها التعامل مع تأثيرات القوانين والسياسات واللوائح المحتملة التي قد يتم فرضها في أسواقٍ بعينها، حتى لا تصبح مهددةً بالخروج القسري من هذه الأسواق. فقد عانت شركاتٌ مثل "BP" من عواقب قرارات السوق غير المتوقعة، بعد أن اضطرت لمغادرة السوق الروسية في أعقاب أيامٍ قليلةٍ من بدء الحرب في أوكرانيا، وترك أصولها في شركة النفط والغاز الروسية "Rosneft"، متكبدةً بذلك خسائر مالية هائلة تجاوزت 24 مليار دولار، فضلًا عن تراجع أرباحها السنوية بمقدار 2 مليار دولار. وفي محاولةٍ لمواجهة تلك الأزمات، تلجأ بعض الشركات إلى تقسيمٍ هيكلي يساعدها على عزل أنشطتها المختلفة بدايةً من الإنتاج، وإدارة المواهب، وسلاسل التوريد، وحتى البحث والتطوير وإبعادها عن أي اضطراباتٍ إقليمية. بينما تحرص بعض الشركات على تمكين الفِرق المحلية من اتخاذ قراراتٍ مستقلة، لما له من أثرٍ في تعزيز مرونة الشركة وقدرتها على خلق مسارات نموٍ مستدامة في أوقات الأزمات. وهو ما قام به مؤخرًا بنك"HSBC" من تغييراتٍ هيكلية واسعة النطاق تستهدف إعادة تنظيم أعمال البنك، عبر تقسيمه إلى قسمين جغرافيين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، لتبسيط هيكل الحوكمة وتقليل المخاطر المحتملة.17
فيما تجد بعض الشركات نفسها مضطرةً إلى تبني نهجٍ مبتكر يُعرف بـ"الوصايا الحية". يقوم على التخطيط الاستباقي لمواجهة الأزمات المحتملة، مما يتيح للمؤسسات التعامل بمرونةٍ وسرعة مع الأزمات المالية الحادة أو حتى احتمالات الانهيار. يعتمد هذا النهج على وضع سيناريوهاتٍ مُحكَمة وحلولٍ مُسبقة لهذه الأزمات. وقد برزت أهمية هذا النهج بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ليصبح أداةً استراتيجيةً أساسية، لا سيما للمؤسسات المالية الكُبرى على وجه الخصوص.18 ومع تعقيد المشهد العالمي، لم يعد التخطيط مُقتصرًا على الجوانب المالية فقط، بل أصبح من الضروري أن يشمل التوقعات المتعلقة بالتأثيرات السياسية والتجارية. وهنا، يقع على عاتق مجالس الإدارة ولجان المخاطر دورٌ أساسي لضمان شمولية الاستراتيجيات وتكاملها. فبمشاركتهم الفاعلة في النقاشات واتخاذ القرارات، يمكن تحقيق توازنٍ دقيق بين استراتيجيات النمو وإدارة المخاطر.
تخصيص مجموعةٍ وظيفية لدراسة التحديات الجيوسياسية. إنّ الشركات التي تستجيب بشكلٍ أسرع للتحديات الجيوسياسية هي تلك التي تُدرِج الجغرافيا السياسية في قراراتها الاستثمارية والتشغيلية بشكلٍ رئيسي. لقد لاحظنا أن الشركات التي حققت نجاحاتٍ على هذا الصعيد تعتمد في استراتيجياتها على إنشاء مجموعاتٍ وظيفية متخصصة يقودها مسؤولٌ يمتلك الخبرة في قراءة المشهد الجيوسياسي، بحيث تقوم هذه المجموعات بمتابعة التطورات المختلفة والمساعدة في بناء التوقعات المستقبلية والتخطيط لمختلف السيناريوهات المُحتملة، مع إطلاع القيادة العُليا ومجلس الإدارة بانتظامٍ على كافة المستجدات والتطورات حتى تتم مناقشتها وبحثها بشكلٍ دقيق ومتعمّق، ليتمكنوا بعد ذلك من اتخاذ قراراتٍ سريعةٍ ومدروسة بعناية. تقوم هذه المجموعات بدورٍ محوريٍ، فهي تساهم في بناء ثقافةٍ من المرونة الجيوسياسية داخل المؤسسات على المدى الطويل، مما يمكّن المؤسسات من التكيُّف بسرعةٍ مع الأزمات والتحديات المتوقعة.
وضع دليلٍ للتعامل مع الأزمات. قد تدفع الأحداث الجيوسياسية بالمؤسسات إلى العديد من الأزمات، ولكننا، وجدنا أن المؤسسات التي تحرص على توثيق نتائج التخطيط الاستراتيجي وتمارين المحاكاة التي تقوم بها، وتعمل على دمجها في دليلٍ أو وثيقةٍ شاملة تُرشد القادة وفِرق الإدارة في الأوقات الحرجة، هي فقط من تتعافى بسرعةٍ أكبر من مثل تلك الأزمات. فهذا الدليل يُعد إطار عمل واضح لتقييم تأثير الأزمات المختلفة، كالنزاعات المحلية أو التغيرات السياسية أو حتى الرسوم الجمركية المفاجئة. وبالرغم من أن نتائج تلك التقييمات قد تبقى غير مؤكدةٍ في كثير من الأحيان، إلا أن وجود مرجعٍ كهذا، يضمن استجابة المؤسسة للأزمات ويُجنّبها الآثار السلبية للتعامل العشوائي في هذه الأوقات. على سبيل المثال، أظهرت إحدى الشركات الرّائدة في صناعة أشباه المُوصلّات كيف يمكن لدليل الأزمات أن يُحدِث فارقًا كبيرًا. حيث وضعت الشركة خطةً واضحة بإسناد بعض المسؤوليات الرئيسية للمدير التنفيذي عند حدوث أي اضطرابٍ في سلسلة التوريد، بينما أوكلت إلى مجموعة الفِرق الإدارية الأخرى بقية جوانب الأزمة. هذا التوزيع المدروس للأدوار يضمن الحفاظ على الإنتاجية بينما تعمل الشركة على إجراء تعديلاتٍ جذرية على قاعدة التوريد الخاصة بها.
من كل ما سبق، يتضح لنا أن التعامل مع المشهد الجيوسياسي العالمي يتطلب من المؤسسات اعتماد النهج الاستباقي الشامل الذي يوازن بين الرؤية المستقبلية والتخطيط المدروس من جانب، والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة في أوقات الأزمات من جانبٍ آخر. ولن تتمكّن المؤسسات من إدراك ذلك بامتلاك الأدوات والموارد فحسب، بل عليها أن تتحلّى بالشجاعة الكافية لمواجهة التحديات واستثمار الفرص التي تنشأ وسط هذا الزخم من الاضطرابات والتعقيدات. ورغم أن الجهد المبذول في هذا السياق قد يبدو مكلفًا ومعقدًا، إلا أنّ العائد المرجوّ منه يستحق العناء. فالقادة الذين يمتلكون رؤيةً استراتيجيةً عميقة ويتفاعلون بذكاءٍ مع التحولات العالمية هم من سيُشكّلون مستقبل الأسواق ويقودون مؤسساتهم نحو الريادة في عالمٍ يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم.