وفي هذه الحلقة المتميزة من بودكاست "داخل الغرفة الاستراتيجية"، نسلط الضوء على أهمية ترسيخ وتعزيز مبدأ المرونة الجيوسياسية داخل المؤسسات، حيث قمنا باستضافة كلٍ من "زياد حيدر"، المدير العالمي للمخاطر الجيوسياسية في ماكنزي، و"ليو جيديس"، الرئيس المشارك لخدمة العملاء في مجال الجغرافيا السياسية، و"أوليفيا وايت"، مديرة معهد ماكنزي العالمي، لمناقشة سبل التعامل مع تداعيات المتغيرات الجيوسياسية وكيفية مواجهة أبرز التحديات ذات الصلة. ونقدم فيما يلي نسخة كتابية منقحة لما دار في هذه الحلقة. للاستماع إلى المزيد من الحوارات الشيقة حول أهم القضايا الاستراتيجية، يمكنكم متابعة الحلقة على منصة البودكاست المفضلة لديكم.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
شون براون: شون براون: كيف يتغير التوازن الجيوسياسي؟
أوليفيا وايت: يتسم المشهد الجيوسياسي الحالي بتعدد متغيراته المشحونة بالتوترات المتصاعدة، وذلك نتيجة أسبابٍ عدة يأتي على رأسها تحول دور الصين وتصدرها للمشهد العالمي، بالإضافة إلى العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة والصين، هذا فضلًا عن الغزو الروسي لأوكرانيا. فبالرغم مما يشهده العالم حاليًا من ترابطٍ وتكامل اقتصادي غير مسبوق، باتت الصراعات والانقسامات الجيوسياسية تتجلى بشكلٍ كبير، مما يتطلب قراءة صحيحة ومتعمقة من المعنين بقطاع الأعمال لهذا الواقع العالمي متعدد الأقطاب (الشكل 1) المنطوي على هذين التوجهين المتباينين. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبًا، هيمنت الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة على المشهد الاقتصادي العالمي، حيث كانت تتحكم في معظم الإمكانات والموارد المادية في العالم، وهي الفترة نفسها التي بزغ وتصاعد فيها نجم الاتحاد السوفيتي بشكل مطرد. غير أن هذا التوازن قد تغير بشكل جذري بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وبدأ دور الصين الرائد يتجلى كقوةٍ اقتصادية عالمية عملاقة.
شون براون: في الآونة الأخيرة بدأت تنتشر مجموعة من النظريات التي تشير إلى نهاية عصر العولمة. هل يدعم بحثك هذا الرأي؟
أوليفيا وايت: على الرغم من المعتقدات الشائعة بشأن نهاية العولمة في الوقت الراهن، إلا أن التجارة العالمية لا تزال تشهد نموًا مستمرًا على مدار السنوات العشر الماضية، بمعدلٍ تقارب وتيرته حجم نمو الناتج المحلي الإجمالي. فعلى سبيل المثال، استمرت التجارة بين الولايات المتحدة والصين في العام الماضي تشهد نموًا ملحوظًا، مما يؤكد أهميتها بنفس القدر التي كانت عليها في أي وقت مضى. وبالتالي، فإن الروابط الاقتصادية الناتجة عن نمو التجارة المطرد تعد حقيقةً ملموسة، مما يعزز فكرة استمرارية العولمة.
إن دراسة أنماط التجارة العالمية باتت أمرًا حيويًا لأي شركةٍ ترغب في تقييم أثر التوترات الجيوسياسية على نطاق أعمالها، حيث تختلف أنماط التجارة باختلاف الدول والمناطق على خارطة الاقتصاد العالمي. فعلى سبيل المثال، تعتمد منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والصين، والاتحاد الأوروبي بشكلٍ كبير على المناطق الأخرى في تلبية معظم احتياجاتها من الموارد مثل المعادن والطاقة والحبوب. بينما تُعتبر العديد من الاقتصادات النامية مصدرًا رئيسيًا لتلك الموارد، حيث تقوم بتوريدها إلى مناطق أخرى. أما بالنسبة لأمريكا الشمالية، فإنها تمثل حالةً متفردةً حيث تتبع نهجًا مختلطًا، لا يعتمد بشكل حصري على منطقة محددة لاستيراد موارد معينة، بل على مصادر عدة للحصول على الموارد المطلوبة. وعلى الصعيد الآخر، تعتمد الصين وعدد من الدول النامية بشكلٍ كبير على الآخرين فيما يتعلق بالملكية الفكرية. وتتطور طبيعة هذه الروابط بمرور الوقت، ولكن بوتيرةٍ بطيئة جدًا، حيث يمكن رصد تغيرات طفيفة لا تتعدى نقطتين مؤتيين سنويًا.
شون براون: ما هو تأثير نقاط الضعف التي تكمن في هذه الروابط الاقتصادية على نطاق عمل الشركات؟
أوليفيا وايت: يعتمد حوالي 40٪ من حجم التجارة العالمية على ثلاثة أو أقل من الاقتصادات العالمية المتخصصة في توريد السلع والخدمات، مما يخلق حالة من عدم التوازن العالمي في هذا الشأن. وهناك نوعان من تمركزات التجارة الخارجية قد يجعلان الدولة والشركات العاملة داخلها أكثر عرضةً للاضطرابات. النوع الأول هو ما يمكن وصفه بالتمركز العالمي لسلعةٍ معينة، حيث يتم توريد معظم الكميات من هذه السلعة أو المنتج من قبل دولتين أو ثلاث دول فقط. وتعتبر سلعة فول الصويا خير مثال على ذلك، حيث تُورد معظم صادرات هذا المنتج من الولايات المتحدة والبرازيل (راجع الشكل 2). أما النوع الثاني، والذي يشكل حوالي 30٪ من حجم التجارة العالمية، فيتمثل في قيام بعض الدول بتوفير احتياجاتها من دولتين أو ثلاث رغم توافر مصادر عدة لنفس السلع في دول أخرى. فعلى سبيل المثال هناك 15 دولة توفر حوالي 90٪ من إنتاج القمح في العالم، ومع ذلك، تعتمد تركيا بالكامل تقريبًا على روسيا وأوكرانيا لتلبية احتياجاتها من القمح. أما بالنسبة للموز، فإنه يمثل حالة مثيرة للاهتمام، حيث تقوم روسيا بتأمين ما يقرب من 95٪ من احتياجاتها من الموز من الإكوادور، ذلك بالرغم من وجود عدد من مختلف الدول الأخرى المنتجة للموز. إن هذه الحالة من عدم التوازن في مشهد التجارة العالمي، تؤدي إلى اعتماد الشركات على مناطق قليلة ومحددة لتلبية احتياجاتها.
شون براون: هل من السهل تأمين الحصول على مصادر أخرى للسلع أو العثور على بدائل في حالة حدوث خلل ما؟
أوليفيا وايت: بالتأكيد يمكننا اللجوء إلى البدائل، ولكن يحكمنا في هذه الحالة عنصرين رئيسيين الأول هو الوقت المستغرق في التحول من استخدام سلعةٍ إلى أخرى، والذي يختلف بشكلٍ كبير وفقًا لطبيعة المنتج أو السلعة. فعلى سبيل المثال، القمح الذي نستورده من روسيا يكون في الغالب مشابهًا إلى حدٍ ما للقمح الذي نقوم بشرائه من أوكرانيا، أو كندا أو الأرجنتين. وفي حالة الضرورة، يمكننا استخدام بدائل أخرى مثل حبوب الذرة أو فول الصويا كعلفٍ للمواشي بدلًا من القمح. أما العنصر الثاني فهو طبيعة السلعة نفسها فهناك بعض السلع أو المنتجات التقنية أو ذات الخصائص المعقدة، والتي لا يمكن استبدالها بسلعٍ أخرى كشريحة الأجهزة الإلكترونية التي لا يمكن استبدالها ببديلٍ آخر كالألماس على سبيل المثال.
تلعب الشركات متعددة الجنسيات دورًا محوريًا في مشهد التجارة العالمية، حيث تمتلك قدراتٍ استثنائية تُمكنها من خلق روابط اقتصادية بين مختلف الأسواق، وذلك عن طريق فروعها المنتشرة في جميع أنحاء العالم. ولذلك، فهي تتأثر بشكلٍ ملحوظ بحالة عدم اليقين الناجمة عن أي خللٍ في الاقتصاد العالمي (راجع الشكل 3). وتسهم الشركات متعددة الجنسيات بنسبة 32٪ من القيمة المضافة للتجارة العالمية للسلع والخدمات، و64٪ من إجمالي الصادرات، كما تستحوذ هذه الشركات على 82٪ من صادرات السلع المتخصصة أو التقنية التي يصعب استبدالها مثل الإلكترونيات أو الأدوية.
شون براون: كيف تؤثر هذه الروابط التجارية على الشركات متعددة الجنسيات بفئاتها المختلفة؟
أوليفيا وايت: تتباين التداعيات الناجمة عن حدوث خللٍ في التجارة العالمية باختلاف طبيعة الشركات متعددة الجنسيات. وفي إطار دراستنا البحثية حول هذا الشأن، قمنا بتحليل تأثير انقطاع تدفقات التجارة العالمية على شركات السيارات من خلال اختباراتٍ وسيناريوهاتٍ افتراضية. وخلصت الدراسة إلى وجود انخفاض تتراوح نسبته ما بين 40إلى 60 بالمائة، مما يعكس الأثر القوي لروابط التجارة الخارجية على هذه الفئة من الشركات. وتدفع هذه النتائج العديد من الشركات نحو التفكير في قرار التخارج من بعض المناطق أو عزل عملياتها. غير أن ذلك الأمر يتوقف على مدى استجابة الشركات متعددة الجنسيات لطبيعة الروابط التجارية، وهذا بدوره يعتمد إلى حد كبير على القطاع الذي تعمل فيه الشركة أو تخصصها. وقد قمنا بتقسيم الشركات متعددة الجنسيات إلى أربع فئات أولية وهي الشركات المصنعة وشركات التوزيع، مثل شركات السيارات وتجارة التجزئة؛ وشركات الوقود، مثل شركات النفط والغاز؛ والشركات التقنية أو القائمة على البحث والتطوير، مثل شركات الأدوية أو الأجهزة التقنية؛ هذا بالإضافة إلى الفئة الرابعة التي تتمثل في الشركات العاملة في مجال التمويل والخدمات المصرفية. وعندما تتساءل إحدى الشركات: "كيف أفكر في عملياتي في الصين؟"، فإن الإجابة تختلف تماماً إذا كنت تبيع في الصين عما لو كنت تنتج في الصين. والخلاصة أن التمييز بين الأنماط المختلفة للشركات يعد عاملًا محوريًا لتقييم الاعتماد المتبادل وتأثير الروابط التجارية على القيمة المضافة ومعدلات نمو الشركة في سياق التحديات التجارية المتغيرة.
شون براون: زياد، بحكم خبرتك الواسعة في مجال الأمن القومي الأمريكي قبل انضمامك إلى شركة ماكنزي، ما هو رأيك فيما نشهده اليوم من تحولاتٍ جيوسياسية؟
زياد حيدر: أنا أتفق تمامًا مع ما أشارت إليه "أوليفيا" بشأن التغيرات الجيوسياسية والروابط الاقتصادية، حيث نشهد ترابطًا اقتصاديًا غير مسبوق، لكنه يحمل في طياته اضطراباتٍ جيوسياسية متفاقمة أكثر من أي وقت مضى، مما يعكس الواقع المتناقض الذي يعيشه العالم اليوم. وكانت استراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها الإدارة الأميركية في أكتوبر الماضي خير دليلٍ على أهمية المرحلة الراهنة، حيث وصفت الاستراتيجية السنوات العشر المقبلة بـ"العقد الحاسم"، مما يؤكد ادراك القيادات الأمريكية التي كانت تهيمن على القوة السياسية سابقًا أننا نعيش الآن مرحلةً مختلفةً وفارقة، تشهد منافسةً مستجدة بين الولايات المتحدة مع قوى عالمية أخرى. وسيتم تحديد معايير هذه المنافسة على مدى السنوات العشر المقبلة.
ولا ينحصر تأثير الاضطرابات الجيوسياسية على القطاع التجاري فقط، حيث تعتبر الأزمة التي تشهدها أوروبا جراء الغزو الروسي لأوكرانيا خير دليلٍ على خطورة هذه الاضطرابات التي تسببت في فقدان الآلاف من الأرواح البشرية. ومن ثمَّ، يتعين علينا أن ندرك تداعيات هذه التوترات الجيوسياسية على مختلف القطاعات مثل الطاقة والدفاع والشؤون الاستراتيجية ذات الصلة. وقد اتخذت عدد من الدول بعض القرارات الاستراتيجية جراء الأزمة، حيث انضمت كلًا من فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي مؤخرًا. وعندما ننظر إلى وضع ميزانية الدفاع في ألمانيا وبعض المواقف الأخرى، ندرك حجم التحديات التي تواجهها الدول جراء هذه الأزمة الراهنة.
فيما تشهد أيضًا منطقة المحيط الهندي والهادئ بعض الاضطرابات الجيوسياسية المتصاعدة مؤخرًا، وذلك بعد أن كانت تتمتع بالاستقرار والسلام لفترات طويلة. وفي ضوء هذه الاضطرابات، تسعى الدول الغربية إلى تحقيق التوازن بين الحد من المخاطر والحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين، حيث تتعاظم الرغبة في تقليص الروابط الاقتصادية المتعلقة بالقطاعات التي قد تهدد الأمن القومي، ولكنهم في الوقت نفسه يدركون الأهمية الاستراتيجية للحفاظ على الروابط الاقتصادية والتجارية مع الصين، كما أوضحت أوليفيا. في النهاية يمكن وصف هذه العلاقة المعقدة بعبارةٍ ذكرها مسؤول أميركي أثناء حديثه مؤخرًا قائلًا: "من الصعب جدًا إجراء عمليةٍ جراحيةٍ لفصل التوائم الملتصقة".
إن تطورات المشهد العالمي الجديد ستسهم في خلق المزيد من الاضطرابات الجيوسياسية، حيث نشهد اليوم فترةً انتقاليةً من عالم القطب الواحد إلى العالم متعدد الأقطاب، مما ينعكس بالضرورة على وضع مؤسسات الأعمال والشركات.
شون براون: هل تمثل هذه المخاطر الجيوسياسية أولويةً بالنسبة لقادة الأعمال وكبار المسؤولين التنفيذيين؟
زياد حيدر: كشفت نتائج الاستطلاعات البحثية التي أجريناها مؤخرًا عن تصدر الشؤون الجيوسياسية أولويات قادة الأعمال، بعد ما كانت تعد من اختصاصات قسم العلاقات الحكومية ومسؤولي إدارة المخاطر، حيث باتت تأتي على رأس أولويات الرؤساء التنفيذيين نظرًا لأهميتها الاستراتيجية في الوقت الراهن. الأمر الذي أكده أحد الرؤساء التنفيذيين قائلًا: "أصبحت الشؤون الجيوسياسية الآن أكثر أهميةً من الاعتبارات المالية مثل أسواق رأس المال". وأضاف آخر قائلًا: "أصبح لدينا الآن فهمٌ متعمق للمشاكل الجيوسياسية، ولكن لم نتوصل بعد لحلولٍ قاطعةٍ وفعالة "، مشيرين أيضًا في نفس السياق إلى استراتيجيتهم الرامية إلى تحقيق المرونة الجيوسياسية، لمواجهة التحديات الراهنة واستغلال الفرص الواعدة التي تحملها هذه التطورات المتلاحقة.
شون براون: قبل أن نتطرق إلى الحلول، هل يمكنك تحديد أبرز التحديات التي تؤثر على استراتيجيات الشركات؟
زياد حيدر: إن معوقات التجارة العالمية وعلى رأسها الحواجز الجمركية تعد من أبرز التحديات الراهنة. بينما يعد التطور التكنولوجي الهائل هو التحدي الثاني. فيما يتمثل التحدي الثالث في تلك القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي لا تنحصر في القيم الإنسانية فحسب، بل تشمل معايير بيئة العمل وحقوق العمال والاستدامة، مما يؤثر بشكل مباشر على سلاسل التوريد. أما التحدي الرابع والذي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار فيتمثل في السياسة الداخلية للعواصم الأوروبية والولايات المتحدة على حدٍ سواء، بالإضافة إلى الصين باعتبارها واحدةٌ من أبزر القوى السياسية في العالم.
شون براون: هل تستخدم الشركات متعددة الجنسيات نفوذها الاقتصادي للتأثير على السياسات الجيوسياسية للدول التي تعمل بها؟
زياد حيدر: هناك بعض الشركات التي تتخذ مواقف محددة من القضايا الجيوسياسية، نتيجةً لتأثير القوى الداخلية، التي أشارت "أوليفيا" إلى أهميتها مُسبقًا، حيث يستجيب عددًا من الشركات متعددة الجنسيات لتوقعات موظفيها بشأن المشاركة الفعالة في الشؤون الجيوسياسية. فعلى الشركات أن تختار إما أن "تؤثر أو تتأثر". كما تلعب هذه الشركات دورًا محوريًا آخرًا في التواصل الفعال بين مختلف الأطراف، حيث يتعين عليها التفاوض بشأن الآراء المتباينة لموظفيها في الأسواق المختلفة، ومسؤوليها في المقر الرئيسي بهدف الوصول إلى حلولٍ متوازنةٍ والحفاظ على ديناميكية الشركة ككيانٍ واحد.
شون براون: كيف يمكن للشركات تعزيز المرونة الجيوسياسية وإدارة تغيرات المشهد المتلاحقة بشكلٍ استباقي؟
ليو جيديس: يمكن القول بأن هناك ثلاثة حزمٍ من التدابير والإجراءات والممارسات العالمية هي الأفضل في مجال تعزيز المرونة الجيوسياسية. يتمحور الإجراء الأول حول تعميق الفهم الصحيح للمشهد الجيوسياسي، حيث تعمل المنظمات الناجحة على تطوير بعض الطرق الحديثة، وذلك لتعزيز استيعابهم للأحداث العالمية المحيطة بهم، كاستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل المحتوى الإعلامي والآراء المختلفة. وبعد ذلك، يتعين على القائمين بهذه المهمة أن يقوموا بتفسير تلك المعطيات لتحديد الأولويات، وتقديم رؤية مبسطة لصناع القرار داخل المنظمة بشأن الأوضاع الجيوسياسية الراهنة وتداعياتها. أما الإجراء الثاني فيتمثل في إعداد سيناريوهات مختلفة لكافة الاحتمالات والتحديات المستقبلية التي يمكن مواجهتها، والتأكد من استعداد المنظمة للتغيير بهدف مواكبة التطورات المتلاحقة بشكلٍ استباقي. ويتمثل الإجراء الثالث في تعزيز الاستجابة الفورية والتكيف، حيث يجب على المنظمات أن تكون قادرةً على تقديم ردود أفعالٍ سريعةٍ وفعالة لمجابهة التحديات الجديدة. ويتم ذلك من خلال تطوير نماذج عملٍ مرنة وآلياتٍ متطورة تسمح للقادة بالتغيير من نهجهم واتخاذ الإجراءات اللازمة لإدارة المواقف المتغيرة.
شون براون: ما هي التدابير الأخرى التي يمكن للشركات اتخاذها، بجانب رصد المعلومات وتفسيرها والاستعداد للاحتمالات المختلفة؟
ليو جيديس: يتعين على الشركات تطوير إمكانات العاملين بها وتعزيز هياكلها الداخلية. كما يلعب مجلس الإدارة دورًا محوريًا في قيادة المنظمة لإدارة الشؤون الجيوسياسية بشكلٍ فعال، حيث يجب أن يتبع مجلس الإدارة نهجًا استباقيًا من خلال التخطيط الاستراتيجي المسبق، وذلك بدلًا من انتظار الأزمات الجيوسياسية. كما يجب أن يدرك مجلس الإدارة حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم بأن يبادروا بمناقشة القضايا الجيوسياسية بهدف التوصل إلى استراتيجياتٍ فعالة من شأنها مواكبة مختلف التغيرات المتوقعة.
كما أننا نحتاج أيضًا إلى أن نجعل هذه الاعتبارات الجيوسياسية ركيزةً أساسيةً في عملية صنع القرار، خاصة وأن هذه القضايا يمكن أن تؤثر على مختلف القرارات في جميع أنحاء المؤسسة. وعلاوةً على ذلك، يجب على الشركات بناء هياكل تنظيميةٍ قوية لضمان تنفيذ هذه القرارات بشكلٍ فعال، مما يتطلب توطيد أواصر التعاون بين كافة فرق العمل في مختلف أقسام الشركة والتي تشمل قسم الشؤون القانونية، وإدارة المخاطر، وفريق العمل المعني بالتواصل والتسويق.
شون براون: وما هي حزمة الإجراءات الثالثة التي يجب اتباعها؟
ليو جيديس: ترتكز حزمة الإجراءات الثالثة على استراتيجية التواصل الفعال وتطبيق القرارات استنادًا إلى الاعتبارات الجيوسياسية المختلفة، مما يتطلب دراسة الهياكل التنظيمية ونماذج عمل الشركة، ذلك لضمان تنفيذ أفضل الاستراتيجيات الفعالة وفقًا للسيناريوهات المختلفة. فعلى سبيل المثال، يجب تقييم الأوضاع لاتخاذ القرار المناسب بشأن تمركز البيانات وتخزينها في موقع واحد أو في أماكن متعددة؟ كما يجب دراسة النهج الأمثل للتعامل مع أسواق رأس المال في دولٍ معينة للاستفادة من الموارد المتاحة في هذه الدول. كما يجب أيضًا توفير رؤية واضحة لاستراتيجية وأهداف المؤسسة لجميع أصحاب المصلحة والجهات المعنية، سواء كانوا خارج نطاق الشركة كالمساهمين والمنظمات ذات الصلة والعملاء، أو الأطراف المعنية من داخل الشركة وهم الموظفين. ويتعين على الشركات ضمان اتساق استراتيجيتها الخارجية مع إجراءاتها الداخلية من أجل تعزيز صورتها الذهنية أمام كافة الأطراف وبالأخص الموظفين الذين أصبحوا حريصين كل الحرص على التعبير عن أراءهم، الأمر الذي يتطلب التزامًا تامًا من هذه الشركات نحو تحقيق أهدافها الاستراتيجية ومواقفها المُعلنة لتجنب حدوث أي أزماتٍ تتعلق بسمعة الشركة.
أما النقطة الأخيرة، فتتعلق بإدراك أهمية القضايا الجيوسياسية على المستوى الشخصي وليس الإقليمي أو الوطني فقط. فيتعين على قادة الأعمال أن يشركوا كافة الموظفين في النقاشات الهامة المتعلقة بالقضايا الجيوسياسية، مما يسمح بمشاركة الآراء والتوصل إلى وجهة نظرٍ مشتركة، أو على الأقل يضمن انخراط كافة الموظفين في المحادثات الاستراتيجية، مما يعزز شعورهم بالانتماء داخل الشركة، حيث يبحث الموظفون عن تلك المؤشرات لتحديد ما إذا كانوا ينتمون إلى الشركة أم أنها لا تناسبهم، وذلك وفقًا لاتساق أهداف المنظمة مع تطلعاتهم الشخصية. فضلًا عما يتبادر إلى أذاهنهم دائمًا من أسئلةٍ تتعلق بمدى تقدير الشركة لوجهات نظرهم سواءًا على المستوى الفردي أو كمجموعة. وفي ختام الحديث عن تلك الإجراءات، أود أن أؤكد على أهمية تطبيق هذه الحزمة من التدابير والإجراءات الثلاث بشكلٍ شاملٍ دون الإخلال بأيٍ من هذه الإجراءات الموصي بها، حيث يعتبر ذلك ضرورةً ملحةً لتعزيز المرونة داخل تلك الشركات.
شون براون: هل يمكنك تقديم بعض النصائح العملية حول كيفية تطوير هذه التدابير اللازمة لتعزيز المرونة؟
زياد حيدر: أولًا يجب التأكد من وجود قاعدةٍ مشتركة للحقائق المتعلقة بالشؤون الجيوسياسية، كما ينبغي أيضًا على قادة الشركات تعميق فهمهم لأبزر القضايا الجيوسياسية بصفةٍ دورية، وذلك من خلال تحديث البيانات والرؤى الجيوسياسية بشكلٍ شهري، للتأكد من إحاطة كافة الأطراف داخل الشركة بالقضايا الأكثر أهميةً وتأثيرًا ولتجنب التشتت بالمعلومات غير الهامة في ظل المشهد المعقد. كما يجب أيضًا تحديد القسم أو الجهة التي ستقوم بمهمة إعداد هذا المحتوى وتطوير الرؤى المتعلقة بالأمور الجيوسياسية، فهل تقع تلك المسؤولية على عاتق قسم العلاقات الحكومية؟ أم على القسم المختص بالاستراتيجية؟ أم ستتولى تلك المهمة قسم متخصص لإدارة المخاطر الجيوسياسية أو السياسية، كما تفعل في العديد من المنظمات في الآونة الأخيرة.
وهنا يجب الإشارة الى نصيحةٍ عمليةٍ أخرى، وهي ضرورة القيام بعمليات رصدٍ دائمٍ للمخاطر الجيوسياسية، حيث يجب ألا تُقتصر هذه العمليات على رصد ومتابعة الدول ذات المستويات العالية من المخاطر على الخارطة العالمية فقط، ولكن يتعين أيضًا على الشركات اتباع نهجٍ دقيق لرصد كافة التفاصيل في مختلف الدول عن كثب، وذلك حتى تكون الصورة أكثر شمولية. ولتسهيل تلك المهمة على أرض الواقع يستخدم عددًا من عملائنا من مختلف الشركات آلية إعداد الخرائط المخصصة لتحديد مستوياتٍ وفئاتٍ مختلفة من المخاطر الجيوسياسية. ووفقًا لعمليات دراسة وتحليل المخاطر المختلفة، يجب على الشركات أن تقوم بإعداد وثيقةٍ مجمعة تحدد بها كافة الضوابط وأساليب التعامل التي يجب تطبيقها في مختلف الأسواق حتى تتمكن من إدارة المخاطر الجيوسياسية بكفاءة. ومن ثمَ، يجب على قادة الشركات أو أعضاء مجالس الإدارات مراجعة هذه الوثيقة بصفةٍ شهرية لتقييم الأوضاع وفقًا لأي مستجدات، حيث أن اتباع هذا النهج المنظم، يعد بمثابة الركيزة الأساسية لتعزيز مبدأ إدارة المخاطر الجيوسياسية وضمان الإحاطة بأبرز القضايا الفارقة، وعدم التشتت بالأحداث المؤقتة.
شون براون: كيف يمكن للشركات رصد المخاطر ذات التداعيات الضخمة والتي يصعب التنبؤ بها، والتي يطلق عليها "البجعات السوداء" أو غيرها من الأحداث غير المتوقعة؟
زياد حيدر: لقد تناولنا في معرض حديثنا عن المخاطر الجيوسياسية العديد من الأليات لإدارة الأعمال على المدى القريب. ولكن وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبح هناك حاجةً ملحةً للنظر إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث بات التخطيط للمدى البعيد أكثر أهميةً من أي وقت مضى. ولرصد تلك المخاطر المحتملة التي يمكن أن تحدث على المدى البعيد يمكن للشركات أن تضع بعض الافتراضات والسناريوهات، مثل احتمالية حدوث جائحةٍ جديدة أو كارثةٍ مناخية. كما يجب الالتفات إلى الأحداث التي قد تؤدي إلى تعطيل سلاسل الإمداد بشكلٍ كامل، مثلما حدث مع جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19). إلى جانب كل ذلك، يتعين على الشركات أن تولي اهتمامًا بالمخاطر المعروفة، حتى وإن كان من الممكن تجاهلها حاليًا، إلا أنها قد تمثل تهديدًا ضخمًا في المستقبل، لذلك تُعرف بمصطلح "وحيد القرن الرمادي". مِنْ ثَمَّ، بات ضروريًا أن تضع الشركات استراتيجيةً قويةً لمواجهة كل تلك المخاطر بنجاح، والمضي قدمًا لتحقيق النمو المستدام في ظل هذا المشهد الجيوسياسي المعقد.