القيادة ليست مهمة سهلة أبدًا؛ ولعلّ مقولة شكسبير الشهيرة، "إن الرأس الذي يرتدي التاج لا يعرف طعم الراحة"، تلخص هذه الحقيقة. فاليوم، يبدو أن مسؤوليات القيادة أصبحت أكثر تعقيدًا بسبب التأثيرات المتنوعة للقوى الاجتماعية، والاقتصادية، والجيوسياسية، سواء على المستوى المحلي أو العالمي. ومع كل هذه التحديات، تظل هناك دائمًا فرصة للنمو والتعلم. كما أشار "دانيال فاسيلا"، الرئيس السابق لمجلس إدارة نوفارتس، فإن التحديات التي يواجهها القادة يمكن أن تكون دافعًا لتحسين مهاراتهم وقدراتهم، وبالتالي التميز في أداء دورهم القيادي.
قدّم "دانيال فاسيلا" استشاراته لمئات من الرؤساء التنفيذيين حول العالم من خلال مشاركته الفعّالة في "منتدى باور" التابع لمؤسسة ماكنزي، كما أنه يشغل عدة مناصب في مجالس إدارات شركات كُبرى. بصفته طبيبًا معترفًا بأبحاثه في معالجة الأمراض المهملة في الدول النامية، وفوق ذلك كقائد عالمي في عالم الأعمال، يؤكد "فاسيلا" على أهمية الصفات الإنسانية في القيادة. فهو يرى أن الصفات الشخصية، مثل الأصالة والقدرة على إظهار نقاط الضعف، تلعب دورًا أساسيًا في نجاح القادة. والمقصود بالأصالة على وجه التحديد أن يكون القائد حقيقيًا وصادقًا مع نفسه ومع الآخرين، بحيث يعبر عن قيمه ومبادئه بوضوح، ويتصرف بطريقة تعكس شخصيته الحقيقية دون تزييف أو تصنع. الأصالة تعني أن القائد لا يحاول التظاهر أو التكيف بشكل مصطنع ليلائم توقعات الآخرين، بل يسعى إلى أن يكون صادقًا وشفافًا في أفعاله وأقواله، مما يساعد على بناء الثقة ويعزز العلاقات الإيجابية داخل الفريق أو المؤسسة. هذه الصفات، التي يُنظر إليها غالبًا على أنها صفات شخصية أو إنسانية، هي في الحقيقة مفتاح الابتكار والنمو، حيث تمكّن القادة من بناء الثقة وإلهام فرقهم لتحقيق أهداف طموحة.
المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية
شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية
وفي مقابلة جديدة، يناقش "دانيال فاسيلا" التحديات والفرص التي تواجه القادة اليوم، ويشرح لماذا يعتبر منصب الرئيس التنفيذي "أفضل وظيفة يمكن أن يحصل عليها أي شخص"، على الرغم من كل الضغوط المرتبطة بها. أجرى المقابلة راميش سرينيفاسان، الشريك البارز في مكتب ماكنزي بنيويورك، وهو أيضًا شريك إداري في "منتدى باور". بالإضافة إلى ذلك، "سرينيفاسان" هو أحد المؤلفين المشاركين لكتاب "رحلة القيادة: كيف يتعلم الرؤساء التنفيذيون القيادة من الداخل إلى الخارج"، المتوقع نشره في سبتمبر 2024. ما يلي هو نسخة منقحة من الحوار الذي دار بين فاسيلا وسرينيفاسان.
راميش سرينيفاسان: يواجه الرؤساء التنفيذيون اليوم مجموعة واسعة من التحديات؛ بعضها جديد وغير مسبوق، بينما البعض الآخر قديم ومتكرر. لكن ما يجعل الأمور أكثر صعوبة هو أن هذه التحديات تتزايد وتتداخل بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. ما رأيك في كيفية تعامل القادة مع هذه التحديات المتسارعة؟ وهل تراهم قادرين على إدارة الأمور بفعالية في هذا العالم المتغير؟
دانيال فاسيلا: كما ذكرت، التحديات التي نواجهها متنوعة وليست كلها من نفس النوع. على سبيل المثال، هناك قضايا جيوسياسية تؤثر بشكل كبير على الأعمال، مثل التغيرات في موازين القوى بين الشرق والغرب خلال السنوات الأخيرة. وقد أصبحت هذه التحولات الجيوسياسية تلقي بظلالها على عالم الأعمال، وتجعل من الصعب على القادة اتخاذ القرارات الصحيحة والتعامل مع الأوضاع المتغيرة.
في الواقع، لقد تسببت جائحة كوفيد 19 في خلق وضع مليء بالتحديات غير المسبوقة. في البداية، كان هناك شعور عام بعدم التصديق، وكأن الجميع يتساءلون: ما الذي يحدث؟ لم يدرك الكثيرون على الفور مدى خطورة الموقف. ولكن مع مرور الوقت، أصبحت الأمور أكثر وضوحًا، وبدأ الجميع يستوعبون حقيقة الأزمة. وهنا تبرز أهمية القيادة، حيث يظهر دور القادة في كيفية توجيه المؤسسات بفعالية خلال الأوقات العصيبة.
على سبيل المثال، قرر "ستيفن سكويري"، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة أمريكان إكسبريس، اتخاذ خطوة جريئة أثناء جائحة كوفيد 19، حيث أعلن عن سياسة تمنع تسريح أي موظف خلال الأزمة. هذا القرار كان له دور كبير في تعزيز شعور الأمان لدى الموظفين في فترة اتسمت بالخوف والقلق. ففي وقت كان يسود فيه الخوف في كل مكان، كانت هذه الخطوة بمثابة طمأنة للموظفين، مما ساعدهم على الشعور بالاستقرار وسط حالة من عدم اليقين.
كان لهذا النهج الإنساني، وما نتج عنه من روح التعاون بين الموظفين، تأثير كبير على تعزيز معنوياتهم. فقد شعر الموظفون بأن الشركة تهتم بهم وتقدّرهم في وقت صعب. وفي نفس الوقت، واصلت الشركة الاستثمار في أعمالها وتقديم الدعم للعملاء الذين يواجهون تحديات خلال الأزمة. هذا التوازن بين رعاية الموظفين وتلبية احتياجات العملاء ساعد على تعزيز الثقة والولاء داخل الشركة وخارجها.
راميش سرينيفاسان: لقد ذكرت أن الخوف كان شعورًا شائعًا في ذلك الوقت، ولكن القادة أيضًا يمرون بمشاعر معقدة مثل الخوف وعدم التصديق خلال الأزمات. كيف يمكنهم تحقيق التوازن بين مشاركة مشاعرهم الإنسانية وإظهار بعض نقاط ضعفهم، وبين الحاجة إلى تحديد مسار واضح واتخاذ قرارات صعبة؟ كيف تمكنت أنت، كقائد، من التعامل مع هذا التحدي وتقديم توجيه حاسم في أوقات الأزمات؟
دانيال فاسيلا: مع مرور الوقت، اكتسبتُ المزيد من الخبرة والثقة بالنفس. عندما يصبح القائد واثقًا من قدراته ويشعر بالراحة مع شخصيته الحقيقية، يصبح من الأسهل عليه أن يكون صريحًا ومنفتحًا دون أن يشعر بالحاجة إلى إخفاء عيوبه أو حماية نفسه بشكل مبالغ فيه. فالثقة بالنفس تساعد القائد على التواصل بصدق، مما يجعله أكثر فعالية في القيادة.
أرى أن مفهوم الهشاشة لدى القادة يمكن تقسيمه إلى جانبين مختلفين. الأول هو الهشاشة الإيجابية، وهي أن يكون القائد منفتحًا ومتاحًا للتواصل، دون أن يبني حواجز حول نفسه. هذا النوع من الهشاشة يجعل القائد سهل الوصول ويعزز الثقة بينه وبين فريقه. أما الجانب الثاني فهو الهشاشة السلبية، وهي تظهر عندما يكون القائد حساسًا جدًا للنقد، فيشعر بالأذى بسرعة ويستجيب بردود فعل سلبية عند مواجهته. هذا النوع من الهشاشة يمكن أن يعوق فعالية القائد ويؤثر سلبًا على بيئة العمل.
وهناك طرق مختلفة يمكن للقادة من خلالها إظهار بعض جوانب الضعف، وأنا أشجع الرؤساء التنفيذيين على أن يكونوا طبيعيين وبسطاء في تعاملاتهم. فغالبًا ما يخلق دور الرئيس التنفيذي نوعًا من المسافة بين القائد والموظفين بسبب طبيعة السلطة التي يحملها هذا المنصب. فقد ينتج عن هذه المسافة ردود فعل مبالغ فيها من الآخرين، سواء كانت ردود إيجابية أو سلبية. فأحيانًا، ينظر الناس إلى القائد كأنه يمثل شخصية من ماضيهم، مثل أحد الوالدين أو معلم قديم أو شخصية ذات سلطة. لذلك، من الضروري أن يكون القائد واعيًا لهذا التأثير، وأن يسعى ليكون شخصًا متاحًا ومقربًا، لتعزيز التواصل وكسر الحواجز النفسية.
راميش سرينيفاسان: عند الحديث عن أهمية القرب من الآخرين واتباع نهج قيادي يركز على الجانب الإنساني، كيف يختلف ذلك بالنسبة للقائد الذي يبدأ مسيرته للتو مقارنة بمن اكتسب خبرة وأصبح أكثر ثقة في دوره؟ كيف يتغير نهج القيادة مع مرور الوقت؟ وهل القادة الجُدد يميلون إلى أن يكونوا أكثر تحفظًا في البداية بسبب رغبتهم في إثبات أنفسهم؟ وكيف تتطور هذه الديناميكية مع اكتسابهم للخبرة والشعور بالراحة في موقعهم القيادي؟
دانيال فاسيلا: عندما بدأت كقائد، كنت أريد أن أحقق النجاح المثالي وأتفوق على كل التوقعات. كنت دائمًا أقيّم نفسي بصرامة، وهذا جعلني أعمل بلا توقف لتحقيق تلك المعايير العالية. لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أن الكمال ليس هو الأهم، وأنه ليس عليّ أن أكون مثاليًا طوال الوقت. وفي الحقيقة، يرتبط هذا الفهم بمفهوم الهشاشة والانفتاح على الآخرين؛ فعندما تتقبل أنك لست بحاجة لأن تكون مثاليًا، تصبح أكثر حرية في التواصل مع الآخرين وتشعر براحة أكبر في قيادة الفريق.
عندما نسعى لتحقيق الكمال، قد نجد أنفسنا محاصرين في سجن المثالية، مما يجعلنا عرضة للنقد في كل خطوة. كنت في كل مرة أتعرض فيها للنقد في وسائل الإعلام أو المحافل العامة أتوقف لأتساءل ما إذا كان لهذا النقد ما يبرره. فإذا كنت واثقًا تمامًا من قراراتي، لم أكن أهتم بمدى توافقها مع آراء الآخرين، بل كنت أتابع مساري بثبات. ومع ذلك، أدركت دائمًا أهمية الاستماع للآراء الأخرى، وخاصة النقد السلبي؛ فإذا تبيّن لي وجود خطأ، كنت أقر به وأبادر بتصحيحه، لأكمل طريقي بثقة وتجدد.
عندما يعترف القائد بعدم كماله، فإنه يفتح المجال للآخرين للتعبير عن آرائهم بثقة، فحين يرى الموظفون مديرهم يعترف بأخطائه، ويطرح الأسئلة بهدف التعلم، ويُقدّر الأفكار البناءة التي يقدمها الفريق، يصبحون أكثر استعدادًا للمشاركة بآرائهم وأفكارهم. من المهم أن يدرك القائد أن لدى أعضاء الفريق معرفة أعمق في بعض المجالات، وأن هذا التنوع في القدرات والمعرفة يمثل أحد أهم عوامل النجاح، حيث يمكن توجيهه لصالح الشركة. إن التكامل بين المهارات والمعرفة يسهم في تعزيز التعاون ويجعل من المؤسسة كيانًا أقوى وأكثر مرونة.
راميش سرينيفاسان: تشير بيانات مؤشر الصحة التنظيمية من ماكنزي إلى أن المؤسسات ذات الأداء العالي تعتمد على ثقافة الاستماع للموظفين وتمكين فريق عملها من خلال تحديد رؤية واتجاه واضحين، مما يساعدهم على تحقيق النتائج المرجوة. لقد قدمتَ توجيهًا للرؤساء التنفيذيين وغيرهم من القادة حول كيفية بناء ثقافة تنظيمية ناجحة. ما هي الملاحظات التي شاهدتها عندما ينتقل القادة من نهج القيادة التقليدي القائم على الأوامر والتحكم إلى أسلوب يركز على تمكين الأفراد والاستماع لهم؟
دانيال فاسيلا: كان من الضروري - في نوفارتس- أن نطور هدفًا مشتركًا وأن نتحدث عن القيم الأساسية. وبناء على ذلك، طرحنا على أنفسنا أسئلة مهمة، مثل: ما هي المعتقدات التي نؤمن بها بعمق؟ وكيف يجب أن نتصرف بناءً على تلك القناعات؟ كذلك، ركزنا على وضع حدود واضحة، وتحديد السلوكيات التي لن نتسامح معها. إلى جانب ذلك، كان علينا تحديد القيم التي نرغب في تعزيزها، ودعمها، والاحتفال بها في بيئة العمل. ولمزيد من التوجيه، قمنا بتوضيح الطموحات والأهداف المستقبلية، ليكون لدى الجميع فهم مشترك حول ما نسعى لتحقيقه معًا.
العمل ضمن فريق القيادة يتطلب أكثر من التعاون؛ فهو يتضمن أيضًا روح المنافسة والرغبة في تحقيق النجاح، مما يجعل هذه التجربة غنية بالتحديات والمكافآت، حيث يحتاج القادة إلى الاستمتاع بالمنافسة لإثراء تجربتهم القيادية. كما يرتبط الهدف دائمًا باستراتيجية العمل، ما يستدعي تحديد أهداف واضحة وتوجيه الفريق نحو تحقيقها، وبعد وضع الأهداف، يأتي دور التنفيذ، يليه متابعة النتائج لتقييم مدى التقدم. ولضمان نجاح هذه العملية، ينبغي أن يسود العمل بوضوح وشفافية، بحيث يمكن للجميع متابعة التقدم والإنجازات بكل وضوح.
لاحظت أن الكثير من الشركات اليوم بدأت تفكر بجدية أكبر في هدفها ورؤيتها. لكن الهدف لا يجب أن يكون مجرد شعار معلق؛ بل يجب أن يكون مدمجًا في ثقافة الشركة بشكل حقيقي. ويتطلب ذلك عملية تفكير ونقاش عميق، حيث يلتزم الجميع بالهدف ويجعلونه جزءًا من ممارساتهم اليومية. كما أن الهدف يحتاج إلى مراجعة مستمرة، للتأكد من أنه لا يزال يعكس قيم وتطلعات الشركة. ولكي يصبح الهدف حيًا وملهمًا، ومتجددًا مع الزمن، يجب طرح سؤال متجدد مثل 'هل هذا الهدف لا يزال صحيحًا وذا معنى؟'.
راميش سرينيفاسان: لقد قلت سابقًا إنه بإمكانك تعليم المفاهيم، لكن لا يمكنك تعليم التجارب. كيف يظهر هذا الفرق في دور الرئيس التنفيذي؟
دانيال فاسيلا: نحن جميعًا نتصرف وفقًا لمفاهيم معينة، حتى وإن لم نكن مدركين لذلك. في الأساس، لدينا إطار فكري أو نمط يوجه تصرفاتنا، وهذا النمط يتشكل من تجاربنا الشخصية، والمعرفة التي اكتسبناها، والملاحظات التي شهدناها. هذه العناصر مجتمعة تؤثر على قراراتنا وتوجهنا في التعامل مع المواقف المختلفة.
تعلمت الكثير والكثير من القادة الذين سبقوني، حيث استفدت من تجاربهم الإيجابية والسلبية على حد سواء. كنت أراقب العواقب السلبية لبعض الأساليب التي استخدموها، وفي الوقت نفسه، كنت ألاحظ الأمور التي أتقنوها بشكل استثنائي. لاحظت أن كل من رؤسائي كان لديه على الأقل نقطة قوة بارزة، وهو ما ركزت عليه وحاولت التعلم منه. فمن خلال تجربتي، أدركت أن لدى العديد من الأشخاص موهبة خاصة، وقد رأيت العديد من الرؤساء التنفيذيين الذين يمتلكون بالفعل قدرات متميزة.
راميش سرينيفاسان: من الصحيح أن العديد من الرؤساء التنفيذيين يمتلكون مواهب استثنائية، لكن هذا وحده لا يكفي، فحتى يتمكنوا من أداء دورهم القيادي المعقد والمليء بالتحديات، يجب أن يكونوا في حالة جيدة من الناحية العقلية والجسدية والعاطفية. كيف يمكن لهؤلاء القادة الحفاظ على قوتهم وتوازنهم طوال رحلتهم القيادية؟
دانيال فاسيلا: يمكنني القول إن الوصول إلى منصب الرئيس التنفيذي يتطلب قدرة قوية على التحمل، وهي صفة يجب أن تكون موجودة لدى القائد قبل أن يصل إلى هذا المنصب. والسؤال هنا: كيف يمكن تطوير هذه القدرة؟ أعتقد أن جزءًا منها طبيعي ويعود إلى طبيعتنا البيولوجية. ومع ذلك، فإن المرور بتجارب صعبة يساعد أيضًا على بناء التحمل؛ فقد لاحظت، من خلال تجربتي، أن الأيام السيئة يتبعها دائمًا أيام جيدة. هذا الفهم - أن الأوقات العصيبة ستنتهي وأن الأمور ستتحسن - يمنح القائد نظرة إيجابية تعزز من قوته. كذلك، يساعد التفاؤل القائد على الاستمرار والصمود أمام التحديات، لأن هذا التفاؤل يمنحه الأمل دون أن يتجاهل الواقع.
تذكر "دانيال فاسيلا" لقاءً جمعه بــــ"جاك ستافورد"، الذي شغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة أمريكان هوم برودكتس منذ سنوات. حين تولى فاسيلا منصب الرئيس التنفيذي، قرر زيارة ستافورد للاستفادة من خبرته الواسعة وسمعته كرجل أعمال قوي. خلال حديثهما، تطرقا إلى مواضيع عديدة، لكن جملة واحدة قالها ستافورد بقيت عالقة في ذهن فاسيلا، وهي : 'دانيال، لا يمكنك أن تثق بأحد سوى زوجتك.' كانت هذه العبارة بمثابة تذكير بأن عالم الأعمال قد يكون مليئًا بالتحديات والعلاقات المعقدة، وأن الثقة التامة لا يجب أن تُمنح بسهولة. لذلك، كان ستافورد ينصحه بالحذر في اختيار الأشخاص الذين يثق بهم، والتأكيد على أن أقرب الناس هم مصدر الدعم والإخلاص الحقيقي.
كانت هذه وجهة نظر حادة، لكنها تحمل جانبًا من الحقيقة. فالعائلة والأصدقاء المقربون هم مصدر استقرار أساسي للقائد، إذ يمكنه أن يكون صريحًا معهم ويعبر عن مشاعره بصدق، وهو ما قد لا يجده بنفس القدر مع زملائه في المؤسسة، حتى إن كانوا مقربين. لذلك، يجب أن يتذكر القائد أن منصبه، مهما كان مهمًا، مؤقت؛ وأنه سيأتي اليوم الذي يغادر فيه هذا الدور، لكن عائلته وأصدقاءه سيبقون إلى جانبه دائمًا. لذا، بناء علاقات قوية خارج نطاق العمل ليس فقط دعمًا شخصيًا، بل هو ركيزة ثابتة تستمر معه طوال مسيرته.
ثانيًا، من الضروري أن تخصص لنفسك وقتًا هادئًا للتأمل والتفكير. بالنسبة لي، كان هذا يعني أخذ وقت للتفكير في التحديات واستعراض الحلول الممكنة للتعامل معها. وأعتقد أن عملية التأمل العميق يمكن أن تكون فعّالة للغاية. على سبيل المثال، كنت أذهب في جولات مشي طويلة مع كلابي، مما يمنحني مساحة هادئة للتفكير والتركيز. هذا الوقت الهادئ ساعدني على فهم الأمور بشكل أوضح واتخاذ قرارات مدروسة.
راميش سرينيفاسان: لقد أشرتَ سابقًا إلى أن تنوع التجارب يمكن أن يساعد القادة على بناء قدرتهم على التحمل والصمود. هل يمكنك مشاركة أمثلة توضح كيف يمكن أن ينعكس هذا التنوع في حياة القادة سواءً من خلال تجاربك الشخصية أو من خلال تجارب قادة آخرين عملت معهم؟
دانيال فاسيلا: نعم، أحد الأمثلة البسيطة على تأثير تنوع التجارب هو العمل في شركة متعددة الجنسيات مع فرصة التنقل بين بلدان مختلفة. إن العيش في ثقافات متنوعة، بلهجاتها ومعتقداتها، يفتح آفاق التفكير ويزيد من تقبل الاختلاف. فعندما يعود الشخص إلى وطنه بعد هذه التجارب، قد يكتشف بلده بعيون جديدة ويلاحظ جوانب لم يكن يدركها من قبل. بهذا، يساهم التنوع الثقافي في تشكيل عقلية أكثر انفتاحًا ومرونة لدى القائد.
هذا مثال من واقع الشركات، ولكن يمكننا أيضًا النظر إلى مثال شخصي آخر يتمثل في أن يكون لدى الفرد معرفة عميقة في مجال معين أو صناعة محددة، سواء من حيث المعرفة أو المهارات، مما يمنحه أساسًا قويًا لبناء مسيرته المهنية. ومن رحم هذا الأساس، يمكنه توسيع خبراته عبر تولي أدوار متنوعة أو العمل في مناطق جغرافية مختلفة. هذه التجارب الإضافية لا تساهم فقط في إثراء مهاراته، بل تحفزه أيضًا على الابتكار والإبداع، إذ يبدأ في البحث عن حلول وبدائل جديدة لم يكن قد فكّر فيها من قبل.
في المقابل، يمكن أن يكون للتنقل المتكرر بين الوظائف أو الشركات بعض العيوب. فبينما يتيح هذا التنوع اكتساب مهارات وخبرات متعددة، إلا أنه قد يعني عدم التعمق بشكل كافٍ في مجال معين أو عدم بناء خبرة طويلة في شركة محددة. من المهم أن يفهم الشخص أن أي مسيرة مهنية تأتي مع بعض التضحيات؛ فمن الصعب تحقيق كل شيء. لذلك، يجب اتخاذ قرارات مهنية مع وعي كامل بالأولويات، فبعض الخيارات قد تكون مخططة بعناية، بينما تحدث خيارات أخرى بشكل غير متوقع.
راميش سرينيفاسان: في كتابنا عن القيادة، تناولنا أهمية التعاطف كمهارة قيادية. برأيك، لماذا يُعتبر التعاطف عنصرًا أساسيًا يجب على القادة تطويره؟ وكيف يمكن أن يسهم التعاطف في بناء ثقافة عمل إيجابية تدعم الأداء وتزيد من إنتاجية الفريق؟
دانيال فاسيلا: التعاطف عنصر أساسي للتعلم وللتواصل العميق، وخاصة في الأوقات الحساسة. فقد تجد نفسك في مواقف تتطلب تعاطفًا حقيقيًا، مثل التعامل مع زميل فقد للتو أحد أحبائه، أو تعرض لحدث مأساوي كحادث. في هذه اللحظات، يمنحك التعاطف القدرة على فهم مشاعر الآخرين، مما يتيح لك تقديم الدعم بطريقة أكثر إنسانية وفعالية. في النهاية، من المهم أن نتذكر ضرورة التحلي بالإنسانية في كل تفاعل.
غالبًا ما يتمتع الأشخاص الذين مرّوا بتجارب صعبة أو معاناة في حياتهم بحس عاطفي أكبر. فهذه التجارب تجعلهم أكثر قدرة على فهم مشاعر الآخرين وتخيل ما يمرون به، سواء كانوا أفرادًا داخل المؤسسة أو زملاء يواجهون تحديات شخصية. بفضل هذه الخبرات المؤلمة، يصبح لديهم حساسية أعمق تجاه مشاعر الآخرين وقدرة على التعاطف معهم بصدق واهتمام.
قد يمتلك الشخص تعاطفًا عميقًا، لكنه يختار أحيانًا عدم إظهاره أو التصرف بناءً عليه لأسباب مختلفة. فعندما يكون عليه إيصال أخبار سيئة، قد يدرك مدى صعوبة الموقف على الطرف الآخر ويتفهم مشاعره، لكنه يبقى مضطرًا لإبلاغه بالحقيقة. في مهنة الطب، على سبيل المثال، قد يواجه الطبيب هذا الموقف عند إبلاغ المرضى بتشخيصات صعبة، وهو أمر مؤلم ولكنه ضروري. هذه المواقف تبرز التحدي بين التعاطف والالتزام بالواجب.
في بيئة العمل، قد يضطر القائد إلى إبلاغ أحد الموظفين بأن وظيفته ستلغى نتيجة إعادة الهيكلة. في هذه اللحظة الصعبة، يصبح من الضروري توصيل الرسالة بوضوح مع مراعاة مشاعر الموظف. وفي الوقت ذاته، ورغم التعاطف، يجب على القائد أن يحتفظ بقدرته على اتخاذ القرارات الصعبة دون تردد. عندما يتصرف الرؤساء التنفيذيون بتعاطف، سواء في المواقف اليومية أو الأزمات، فإنهم يبنون جسورًا من الثقة والاحترام تعزز من تماسك المؤسسة وتقوي روابطها الداخلية.
راميش سرينيفاسان: دعنا نتحدث عن التوازن بين العمل والحياة الشخصية. هل تعتقد أن فكرة التفاني المفرط والعمل بلا توقف بدأت تتغير، خاصة مع دخول الأجيال الشابة إلى سوق العمل، التي يبدو أنها تعطي الأولوية للتوازن والمرونة في أسلوب حياتها؟
دانيال فاسيلا: أرى أن الأمور قد تغيرت إلى حد ما. فبينما لا يزال الشباب يعملون بجد، إلا أنهم لا يعتبرون أن التفاني الكامل في العمل هو الأسلوب الأمثل للعيش. فهم يسعون بشكل أكبر لتحقيق توازن بين العمل وحياتهم الشخصية، ويرون أن الانسجام بين جوانب الحياة المختلفة، بما في ذلك العمل، هو ما يمنحهم حياة أكثر توازنًا واستقرارًا.
كانت تجربتي مختلفة تمامًا؛ ففي مهنة الطب، كان من البديهي أن تعمل متى ما دعت الحاجة دون تردد. كنا نغطي نوبات صباحية ومسائية، وأحيانًا نعمل ليوم كامل دون توقف. كان هذا الالتزام جزءًا من طبيعة العمل. ولكن، مع مرور الوقت، تغيرت الأمور؛ فعلى الأقل في سويسرا، تغيرت قوانين المستشفيات لتوفير توازن أكبر بين العمل والحياة.
عندما يتحدث أبنائي عن حياتهم، يوضحون أن العمل ليس كل شيء بالنسبة لهم؛ فهم يرغبون في تخصيص وقت لهواياتهم وأنشطتهم الخاصة. في البداية، كان من الصعب عليّ استيعاب هذا المفهوم، خاصة وأنني نشأت في بيئة تضع العمل في المقام الأول. لكن بمرور الوقت، بدأت أفهم رؤيتهم وأقدّر أهمية التوازن الذي يسعون إليه بين العمل والحياة الشخصية، والذي يعكس احتياجات وتطلعات جيلهم.
كان ابني الأكبر يستعد للبدء في زمالة تخصصية بمجال إعادة بناء الأنسجة وإصلاح التشوهات الجراحية أو ما يُعرف "بجراحة الترميم"، وقرر أن يتوقف عن العمل لبضعة أشهر قبل أن يبدأ وظيفته الجديدة. عندما أخبرني بأنه سيأخذ إجازة استراحة، استغربت وسألته: 'إجازة؟ ولماذا؟' فأجابني بأنها فرصة نادرة لأخذ فترة راحة بين وظيفتين تتطلبان جهدًا كبيرًا. في البداية، لم أكن لأتخذ قرارًا مماثلًا لو كنت مكانه، لكنني أدركت لاحقًا أن التفكير بهذه الطريقة له مميزاته، وأنه من الجيد أن يمنح المرء نفسه فرصة للتجديد.
أرى أن هذه التغييرات تحمل جانبًا إيجابيًا، حيث تتيح للناس فرصة التعلم من تجارب وظروف مختلفة، مما يسهم في بناء مسيرة مهنية مستدامة تتناسب مع حياة أطول وأكثر صحة. إن اتجاه الأجيال الشابة نحو أخذ فترات راحة، والسعي لتحقيق توازن بين العمل والحياة، واستكشاف مسارات مهنية متنوعة، هو بالتأكيد تغيير مرحب به ويدعم أسلوب حياة أكثر توازنًا واستمرارية.
راميش سرينيفاسان: ما النصيحة التي يمكنك تقديمها للرؤساء التنفيذيين الذين يسعون لإدارة مؤسسة حديثة في ظل تعدد المتطلبات وتنوع أصحاب المصلحة؟ كيف يمكنهم تحقيق التوازن بين تلبية احتياجات الأطراف المختلفة والالتزام برؤية المؤسسة وأهدافها؟
دانيال فاسيلا: أول نصيحة لي هي أن يستمتع القائد بما يقوم به. فكونك رئيسًا تنفيذيًا هو من أفضل الوظائف التي يمكن أن تحصل عليها. إنها وظيفة رائعة، حتى مع كل التحديات والجوانب السلبية التي قد تواجهها.
أما نصيحتي الأخرى، فهي تتعلق بأهمية التوجيه المهني. في السابق، كان يُنظر إلى التوجيه كأداة تُستخدم فقط عند وقوع مشكلة، لكن اليوم أصبح التوجيه جزءًا أساسيًا من نجاح القادة. فالتواصل مع مدرب خارجي يمنح القادة منظورًا جديدًا ويضيف قيمة حقيقية، وهو ما نلاحظه في العديد من الشركات، حيث يحرص الرؤساء التنفيذيون على وجود مدربين شخصيين يدعمونهم.
هذه الفكرة تعكس توجهًا أوسع نحو أهمية طلب الدعم؛ إذ أصبح القادة يستعينون بمدربي اليوغا أو المعالجين النفسيين، مما يعكس انتقال القيادة من النهج التقليدي السلطوي إلى أسلوب أكثر تعاونًا وتفاعلًا. فمعظم القادة اليوم يدركون قيمة الدعم والمساندة، وهذا التغيير يتماشى مع رؤية الجيل زد للقيادة وكيفية تطورها في المستقبل.
راميش سرينيفاسان: عندما تتحدث عن متعة المنافسة والاستمتاع بدور الرئيس التنفيذي، هل كان هذا الشعور جزءًا من رحلتك المهنية منذ البداية؟ أم أنه تطلب وقتًا وتجارب متعددة حتى تصل إلى هذه المرحلة من الرضا؟
دانيال فاسيلا: كان لدي هذا الشعور منذ البداية، حتى في المناصب السابقة التي شغلتها قبل أن أصبح رئيسًا تنفيذيًا.
على سبيل المثال، عندما كنت أشغل منصب رئيس قسم التطوير، كانت تجربة تسريع طرح المنتجات الجديدة في السوق ممتعة ومحفّزة. ومع تقدمي في المناصب، ظل هذا الشعور بالحماس والتحدي يرافقني في كل خطوة.
أما على هامش عملي كمدرب للرؤساء التنفيذيين، أقوم بتأسيس علاقات فردية قائمة على الثقة تستمر لأشهر وأحيانًا لسنوات. وأرى كيف أن قادة موهوبين يجدون متعة في معظم جوانب عملهم، ورغم ذلك، تبقى هناك أمور تؤرقهم. غالبًا، لا تكمن التحديات الكبرى في الاستراتيجيات أو المسائل المالية، بل في العلاقات الشخصية، مثل التعامل مع عضو صعب ضمن الفريق، أو تحديد ما إذا كان من الضروري مواجهة شخص معين وكيفية القيام بذلك.
الاستمتاع بالعمل هو مفهوم بالغ الأهمية، وقد شاهدنا مثالًا حيًا على ذلك خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية، حيث واجهت لاعبة الجمباز الأمريكية سيمون بايلز تحدياتها وتغلبت عليها، فمواجهة الصعوبات وتجاوزها يضيف للإنجاز قيمة أكبر ويجعل الشعور بالنجاح أكثر إرضاءً، فكلما كانت التحديات التي نواجهها أعظم، زادت متعة الإنجاز وعمق الشعور بالفخر، تمامًا كما تصبح الميداليات الأولمبية أكثر قيمة بعد تخطي الصعاب.
ما الذي يمنح الرؤساء التنفيذيين الرضا ويشجعهم على البقاء في مناصبهم والعمل على تطوير مؤسساتهم؟ هذه أسئلة جوهرية، وأعتقد أن الإجابة تعتمد على مزيج من العناصر التي ناقشناها. أولاً، تحديد هدف مشترك يلهم الجميع ويعزز التماسك داخل المؤسسة. ثانيًا، فهم القائد لذاته ودوافعه الشخصية، مما يساعده على قيادة الآخرين بفعالية. كما أن الاعتماد على دعم العائلة والأصدقاء والزملاء والمدربين يُضفي تنوعًا في وجهات النظر ودعمًا حقيقيًا. بالإضافة إلى ذلك، يأتي دور التعاطف مع الآخرين وطلب المساعدة عند الحاجة، كجزء من رحلة القيادة الإنسانية. وأخيرًا، تقبّل فكرة الخسارة في بعض الأحيان؛ فبدون الخسارة، لن يكون التحدي ممتعًا كما هو، أليس كذلك؟