لماذا ينبغي على الخبراء الاستراتيجيين تقبُّل العيوب والتأقلم معها

| تدوينة صوتية

ملاحظة: إننا نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على جميع التفاصيل الدقيقة عند ترجمة المقالة الإنجليزية الأصلية، ونعتذر عن أي جزئية مفقودة في الترجمة قد تلاحظونها من حين لآخر. نرحب بتعليقاتكم على البريد الإلكتروني التالي reader_input@mckinsey.com

في الأعوام الأخيرة، باتت الحاجة أكثر إلحاحاً إلى تغيير النهج التقليدي المتبع في وضع خطط العمل الاستراتيجية، واللجوء إلى التكيف مع ما يُستجد من التطورات التكنولوجية السريعة والتحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الخارجية، التي تعصف بالمؤسسات والشركات. في هذه الحلقة من سلسلة "داخل غرفة الاستراتيجية"، يحدثنا مؤلفو كتاب (المتقبلون للعيوب: أنماطٌ للتفكير الاستراتيجي في أوقات عدم اليقين) عن كيفية تحقيق الشركات للاستفادة القصوى والسريعة من تحول نهجها التقليدي في وضع الاستراتيجيات إلى نهجٍ جديدٍ يتوافق مع تلك التحولات لكي تتمكن من البقاء والازدهار، عبر اتخاذ مجموعةٍ من الخطوات الصغيرة والجريئة في الوقت نفسه. إن ضيفينا في هذه المحادثة المحررة هم تشارلز كون، المستثمر والناشط البيئي ورائد الأعمال وخريج ماكنزي، وكذلك روبرت ماكلين، مدير مؤسسة بول رامزاي، وهي أكبر مؤسسةٍ خيرية تعمل في أستراليا، وعضو مجلس إدارة المحافظة الطبيعية في أستراليا وآسيا، والعميد السابق للمدرسة الأسترالية العليا للإدارة، كما أنه المدير الفخري لماكنزي. وللحصول على المزيد من المناقشات حول أهم القضايا الاستراتيجية، ندعوك لمتابعة هذه السلسلة من الحلقات على منصة بودكاست "داخل غرفة الاستراتيجية"

المزيد من الرؤى والتقارير من ماكنزي باللغة العربية

شاهد مجموعة المقالات الخاصة بنا باللغة العربية، واشترك في النشرة الإخبارية العربية الشهرية

تصفح المجموعة

شون براون: أولًا أود أن أسأل، لماذا ألّفت هذا الكتاب ولماذا اخترت له هذا العنوان"المتقبلون للعيوب"؟

تشارلز كون: إن الأوساط الاقتصادية والاجتماعية في جميع أرجاء العالم تعاني اليوم من اضطراباتٍ واضحة ومتعددة الأنماط، ويمثل تحديد الاتجاه الاستراتيجي وسط هذا الزخم من الاضطرابات تحديًا كبيرًا للغاية، سواءً للمنظمات غير الربحية أو غيرها. وفي هذه الحالة من التوتر والقلق، يختلف سلوك الأشخاص عن بعضهم البعض، فمنهم من يُفضل الانتظار حتى الوصول لحالةٍ من الاستقرار والتوازن، ومنهم من يلجأ لاتخاذ قراراتٍ متسرعة تفتقد إلى التحليل الدقيق، سواء كانت هذه القرارات تتعلق بالاستحواذ أو أي إجراءاتٍ أخرى. ومن هنا تتضح أهمية السعي لإيجاد طريقٍ جديد يدعم التقدم بثقةٍ نحو المخاطرة، من خلال مجموعةٍ من الأنماط الفكرية الستة، والتي نطلق عليها عنوان "العملية الناقصة".

عند سماعنا لمصطلح "العملية الناقصة" للمرة الأولى، قد يعتقد بعضنا أنه يعبر عن شيءٍ سلبي، ولكن المقصود به هنا هو تقبُّل فكرة عدم امتلاك المعرفة الكاملة أو المثالية لكافة الأمور قبل اتخاذ الخطوات الاستراتيجية اللازمة. إن باستطاعة الشركات والمنظمات التي لا تسعى للربح القيام بمجموعةٍ من التحركات البسيطة لتساعدها على بناء معرفةٍ حقيقةٍ حول هذا العالم غير المؤكد الذي تعمل فيه، ومن ثم يمكنها إضافة المزيد من القدرات والأصول وغيرها من المميزات تباعًا بشكلٍ تدريجي. وبذلك، تستطيع تأسيس وضعٍ استراتيجي جديد لنفسها يُلحقها بالصفوف الأمامية تدريجياً، عِوضًا عن القيام بقفزاتٍ جريئة قد يَثبت خطؤها فيما بعد، أو بدلًا من الوقوف بصمتٍ دون اتخاذ أي خطوةٍ نحو الأمام.

شون براون: هل بالفعل أصبح عالمنا اليوم يواجه التغيير بوتيرته المتسارعة، للدرجة التي جعلت من النهج الاستراتيجي التقليدي الذي درسناه سابقًا في كلية الأعمال قديمًا؟

تشارلز كون: نحن لا نقول بأن هذه المنهجيات جميعها خاطئةً بالضرورة، وإنما نقول بأن الالتزام بهذه المنهجيات وسط عالمٍ يتغير بسرعةٍ كبيرة وبشكلٍ جوهري، قد يؤدي إما إلى نتائج غير مكتملة أو مضللةً بعض الشيء. إن حالة انعدام اليقين التي نعيشها اليوم تنقسم إلى نوعين؛ الأول يتمثل في عدم اليقين الاقتصادي والصدمات الخارجية كالحرب الأوكرانية مثلًا، بينما يتمثل النوع الثاني في التغير التكنولوجي السريع، وهو ما يعد مؤثرًا بشكلٍ كبير. وبالتبعية لا يمكن إنكار صعوبة أن تصبح منافسًا في أحد الصناعات وسط هذا الزخم من التقنيات الجديدة كالذكاء الاصطناعي والتشغيل الآلي وعلم الأحياء القابل للبرمجة وغيرها من التطورات التي يشهدها العالم.

واليوم، ونحن نشهد ظهور شركاتٍ قوية مثل آبل وأمازون وجوجل، والتي تتمتع جميعها بالقدرة على العمل في قطاعاتٍ صناعية متعددة، يصبح من الصعب اتباع نفس النهج التقليدي في وضع استراتيجيات عمل هذه الشركات، إذ من المحتمل أن تتعرض كمُصنّع أو كمؤسسةٍ غير ربحية لاضطراباتٍ من مصادر متعددة، سواءً كانت تلك الاضطرابات من خارج صناعتك أو من منافسين آخرين.

علينا تقبُّل حقيقة أن طريقنا للتقدم سيكون أشبه بلعبة "الرجبي": سلسلةٌ من التحركات إلى الأمام والوراء وأخرى بشكلٍ عرضي، كما علينا أن نتقبل فشل بعض هذه التحركات – ومن هنا يأتي مصطلح "العملية الناقصة."

تشارلز كون

شون براون: هل تظن أن المنظمات والمؤسسات بحاجةٍ إلى زيادة وتيرة تنفيذ العمليات الاستراتيجية الخاصة بها، إلى جانب تغيير طريقة وضع وتنفيذ تلك الاستراتيجيات؟

تشارلز كون: في عالمٍ يزخر بالبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي وغيرها من التكنولوجيات المتقدمة، أصبح من غير المناسب أن نعتمد على النهج السنوي التقليدي لتطوير الاستراتيجيات. بل يجب أن تتسم استراتيجياتنا بأعلى درجات الديناميكية، وبتوجيهٍ من الإدارات العُليا للمؤسسات عبر طرح أكثر الأسئلة جرأةً، ثم تقوم بعد ذلك فرق العمل في الخطوط الأمامية والتي تتعامل بشكلٍ مباشر مع العملاء على ضمان تنفيذ تلك الاستراتيجيات. إن الأمر يتعلق بكيفية تحقيقنا للأهداف، إذ علينا تقبُّل حقيقة أن طريقنا للتقدم يجب أن يتسم بالمرونة ليكون أشبه بلعبة "الرجبي" أكثر من كونه لعبة "شطرنج"، أي أن يكون عبارة عن تحركاتٍ للأمام وأخرى للوراء وثالثة بشكلٍ عرضي. كما علينا تقبُّل فشل بعض هذه التحركات – فمن هنا جاء مصطلح "العملية الناقصة". إن القبول بوجود بعض المحاولات الفاشلة وضمان عدم معاقبة فرق العمل على تلك المحاولات، خاصةً إذا كانت هذه المحاولات متواضعةً وقابلةً للتصحيح لأمرٌ بالغ الأهمية. إن هذين المفهومين المتمثلين في تطوير استراتيجيات العمل بشكلٍ مرن إلى جانب تقبل الفشل إن وجد، يجب أن يكونا في ذهن كل من يسعى للتطوير المستمر دون أن يكترث لاحتمالية وجود بعض العيوب والنقائص.

شون براون: كيف برأيك يمكن أن يتم دمج تلك المفاهيم في نهج إدارة الأداء بالمؤسسة؟

تشارلز كون: كل ما عليك فعله هو تنفيذ هذه الإجراءات. من الجيد أن تُطَمئِن الناس بأنك لن تقوم بمعاقبتهم على الأخطاء الصغيرة، ولكن من الأفضل أن يروا ذلك بأنفسهم كحقيقةٍ واقعة. كما يجب عليك أيضًا أن تحتفي بالفِرق التي تقوم باتخاذ خطواتٍ مدروسة ومنطقية، حتى لو لم تكن ناجحة في جميع الأحيان، مع العمل على تعويضهم بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع زملائهم من الفِرق الناجحة.

شون براون: لقد ناقشنا عدة مراتٍ في هذه التدوينة الصوتية أهمية الاستمرار في السير قدمًا نحو الهدف المحدد، خاصةً في أوقات الشك وعدم اليقين. فكيف يمكن إحداث هذا التوافق بين ضرورة اتخاذ خطواتٍ صغيرةٍ ومرنة مع وضع أهدافٍ جريئة على المدى الطويل؟

تشارلز كون: بصفتي رئيس مجلس إدارة شركة "باتاغونيا"، فقد شرفت بالعمل مع مؤسسها، إيفون شوينار، على مدار فترةٍ طويلة من الزمن. لعل أكثر ما يميز هذه المؤسسة التي تحتفل اليوم بعامها الخمسين، هو التزامها القوي برؤيتها الخاصة، والذي يعد أمرًا نادر الحدوث. وبالرغم من ذلك، فإن طريقة تنفيذ هذه الرؤية قد تتغير مع مرور الوقت. وإذا سألت "ميليندا"، زوجة "إيفون" فستخبرك بأننا نعيد اختراع الشركة مرةً كل خمس سنوات. لذلك، تبقى رؤيتنا مستمرةً ومتجددة، ولكن طريقتنا في تحقيق تلك الرؤية هي التي تتغير وتتطور لتناسب التغيرات التي تطرأ على البيئة التي نعمل فيها بين الحين والآخر.

أما إيفون فدائمًا ما يقول: "بإمكانك القيام بالتخطيط العلمي المثالي لتقدم الشركة. ولكن بحلول ذلك الوقت، قد يكون هناك شخصٌ آخر قد سبقك بالفعل في تحقيق هذا الهدف." وهذا يعني أن الخطوة المثلى هي أن تتحرك قدمًا نحو هدفك، ثم تقوم في تلك الأثناء بتقييم سير الأمور، ومن ثم تعمل على تحديد بعض الأمور مثل: هل تحتاج لاتخاذ خطوةٍ إضافية نحو الأمام؟ أم تحتاج للعودة خطوةً إلى الوراء؟ تلك العملية لا تشترط إتمام كافة الأمور قبل البدء بالعمل، لذا فإنها تحرز تقدمًا أسرع بكثيرٍ من القيام بخطوةٍ ضخمةٍ يصعب التعافي منها، كالإقدام على إتمام عملية استحواذٍ كبيرة لا تتناسب مع قدرات وإمكانات الشركة، ثم قضاء سنواتٍ في التعافي من آثار تلك العملية.

روبرت ماكلين: بالإضافة إلى أن هذه العملية بالفعل تجعل الأمور تتم بشكلٍ أسرع بكثير من إضاعة الوقت في انتظار تحقيق اليقين التام قبل اتخاذ أي خطوةٍ لضمان تحقيق النجاح بنسبة 100 في المائة، وهو ما تفعله تلك الشركات التي يسيطر عليها الخوف من المخاطرة. إنهم يتأخرون في اتخاذ القرارات بانتظار اليقين الكامل، مما يؤدي لضياع الفرص.

تشارلز كون: إن القدرة على التكيف والانتقال بشكلٍ سريع خطوة مهمة حقًا، ولكنها قد تؤدي إلى وضع أهدافٍ ضعيفةٍ بعض الشيء ولا تتسم بالطموح. فمن الضروري أن يكون لديك هدفٌ كبيرٌ وطموح بدرجةٍ كافية. لذا فإن هذا التفكير الأشبه بالسُّلم، يُعد نهجًا تدريجيًا للوصول إلى الأهداف، غير أن الهدف النهائي يجب أن يكون جريئًا بما فيه الكفاية. فبهذه الطريقة، يمكنك تجنب الوقوع في فخ الاستقرار والثبات الذي قد يحدث عند اتخاذك خطواتٍ صغيرة ومرنة.

شون براون: تتحدث في كتابك الجديد عن أنواعٍ مختلفةٍ من التفكير. هل يمكنك أن تشرح لنا بعض هذه الأنواع، بدءًا من الأولى وهي "الفضول الدائم"؟

تشارلز كون: إن أي عملية تفكيرٍ إبداعي دائمًا ما تبدأ بخطوةٍ من الخطوات الرئيسية التالية، وهي إما بطرح الأسئلة الجريئة أو بامتلاك رؤيةٍ واضحةٍ للمستقبل. لذا فإن الفضول يُعد عنصراً أساسياً في هذه العملية، فإنه يحث على التساؤل والبحث عن حلولٍ جديدة ومبتكرة. ومن أكثر صيغ الأسئلة التي يجب طرحها لكي نفهم الأمور وندركها هي "لماذا؟". وبالرغم من أهمية هذه الصيغة من السؤال، إلا أن عددًا هائلًا من الفرق الإدارية قد يغفل عن طرحها، وذلك اعتقادًا منهم بأن النهج التقليدي في التفكير والذي نشأوا عليه هو فقط النهج المناسب دون غيره، وهو ما ثبُت عدم صحته. فقد أسهم طرح أسئلةٍ كهذه في تحديث الإطار الفكري وفتح آفاقٍ أكثر رحابةً نحو ثقافةٍ تنظيميةٍ تواكب التحديات المستقبلية بشكلٍ أكثر فعّالية.

شون براون: وما هو نوع السؤال الذي تعتبره جريئًا إذًا؟

روبرت ماكلين: سأعطيك مثالًا توضيحيًا، إنه عن ابنة "إدوين لاند"، مخترع ومؤسس شركة بولارويد، والتي كانت تقضي عطلتها مع أسرتها في أربعينيات القرن الماضي. وبعد أن التقط والدها صورةً لها، طلبت منه رؤيتها. لم يكن ذلك ممكنًا حينها بسبب عدم وجود تقنية الصور الفورية في ذلك الوقت، فقد كانت شركته تتخصص في تصنيع نظاراتٍ شمسية مستقطبة وأفلامٍ للتطبيقات العلمية. ثم أخذ يفكر "إدوين" في حلٍ لهذه المشكلة، حتى وجد الإجابة. فهذا السؤال البسيط والفضول الذي أبدته الابنة حفّز "إدوين لاند" على التفكير والبحث، مما أدى في النهاية إلى ابتكاره كاميرا "بولارويد" الفورية التي يعرفها الجميع.

شون براون: كيف يمكن للشركات أن تعزز ثقافةً تشجع الموظفين على طرح الأسئلة الملهِمة، وما الذي ينبغي عليها أن تفعله لتحفيزهم على العمل وفقًا لهذه الثقافة؟

روبرت ماكلين: كما قلنا سابقًا، فإننا نعيش في عالمٍ يتغير بوتيرةٍ سريعة، لذا يجب أن نظل على تواصلٍ دائم مع التحديات والتطورات المحيطة بنا. إن هذا التواصل الفعّال يشجع حتمًا على طرح الأسئلة الجريئة والمبتكرة، والتي تأتي كنتيجةٍ لفهمنا العميق للبيئة المحيطة. ومن الضروري أيضًا أن نبدي اهتمامنا بكل ما هو جديد، واضعين في اعتبارنا أن الردود السلبية على من يطرح السؤال قد تقيد من قدرته على طرح مثل تلك الأسئلة الملهمة فيما بعد، وهو ما لا نرغب في حدوثه.

شون براون: لقد تطرقتما في كتابكما للحديث عن نمطٍ آخر من التفكير، وهو "عين اليعسوب"، لماذا أطلقتم عليه هذا الاسم؟

روبرت ماكلين: إن حشرة اليعسوب، مثيرةٌ حقًا للاهتمام فهي تتمتع بعينين كبيرتين مركبتين تحتويان على حوالي 30 ألف عدسة. لقد قمنا باقتباس مفهوم عين "اليعسوب" من كتابٍ يناقش كيف يمكن استخدام عدة عدساتٍ لاتخاذ قراراتٍ أفضل، وهو كتابٌ لـــ "فيليب تيتلوك" و"دان غاردنر" ويحمل عنوان "التنبؤ الفائق: فن وعلم التنبؤ"، ربما قد سمع به بعض المستمعين. لقد اعتمدنا على هذا المفهوم كمحاولةٍ منا لتوسيع النظرة وزيادة الفهم، مما يساعدنا على اتخاذ قراراتٍ أفضل في مختلف الأوضاع.

ولعل أفضل مثالٍ على ذلك، هو شركة "Invisalign" لتقويم الأسنان، تلك الشركة التي تأسست على يد أحد طلاب كلية إدارة الأعمال في جامعة ستانفورد، والذي قام بعمل تقويمٍ لأسنانه باستخدام أسلاكٍ معدنية ثم عمد إلى تدعيمها بتقويمٍ بلاستيكيٍ شفاف ليحصل على تصميمٍ نهائي يعطي نفس النتيجة التي يحققها التقويم المعدني، ولكن بطريقةٍ أقل تدخلًا. لذلك فإننا نُجزم بأن تطبيق منظور العميل قد يساهم في الحصول على ابتكاراتٍ استثنائية.

شون براون: ولكن طالبًا في كلية إدارة الأعمال ليس لديه الكثير ليخسره، إذ أن فضوله هو الذي يحركه. أما بالنسبة للوضع هنا فهو مختلفٌ بعض الشيء، فإن الجميع يتوقع من المدير التنفيذي لفريق الإدارة أن يحقق نتائجًا أكثر ثباتًا.

تشارلز كون: بالطبع، لذلك ينبغي أن أشير هنا إلى أهمية دمج الاستراتيجية في جميع جوانب العمل داخل المؤسسة أو الشركة، بدلاً من التعامل معها على أنها جزءٌ منفصل. فغالبًا ما نقوم بالفصل بين الوظائف المختلفة في الشركة، وهو ما يعد خطأً جسيمًا. كما ينبغي أن يكون لكل فردٍ في الشركة رؤيةٌ استراتيجية تتشكّل من إجابات بعض الأسئلة الجريئة التي تتوارد إلى ذهنه. كما يجب أن تكون تلك الأسئلة الجريئة والاستفسارات متداخلةً في صلب العمليات داخل الشركة بدءًا من الإدارة العُليا وصولاً إلى الطبقات الأدنى من الموظفين. حيث تعد تلك الأسئلة والاستفسارات نواةً للابتكار والتفكير المستقبلي. إن نهجًا كهذا يمكن أن يعزز من عملية تدفق الأفكار والمبادرات المبتكرة الصادرة من العاملين في الخطوط الأمامية إلى القيادة العُليا للشركة، مما يساهم في تطوير استراتيجياتٍ فعّالةٍ ومناسبةٍ للتحديات التي يمكن أن تواجهها الشركة.

أما بالنسبة لنا في "باتاغونيا"، فقد قمنا مؤخرًا بتوسيع نطاق أعمالنا لتضم أنشطةً تجارية جديدة في مجالي الأغذية والملابس الوظيفية، وهي الملابس التي يرتديها العمال في المناطق الخطرة أو المناطق غير النظيفة، وهنا يجب الإشارة إلى أن هذه الأفكار كانت نتاجًا للعمليات الميدانية، والتي تم تطويرها من خلال موظفي الخطوط الأمامية للشركة ممن يتعاملون مباشرةً مع تفاصيل العمل اليومي. نحن لا نستطيع أن نجزم بنجاح هذه الأفكار، وإنما نقدر مجهودات الفريق الذي عمل على تطويرها ونقوم بتشجيعه عندما يحقق تقدمًا، كما نقوم بدعمهم فيما يواجههم من تحديات. ولعل أفضل أسلوبٍ لتحقيق ذلك هو بتخصيص اجتماعات العمل الأسبوعية لمناقشة هذه الأمور الاستراتيجية وبحضور موظفي الخطوط الأمامية للشركة، حتى يتسنى لهم المشاركة الفعالة في توجيه الشركة نحو مستقبلٍ مزدهر.

روبرت ماكلين: وهنا، أود التحذير من خطورة الاعتماد على طريقة تفكيرٍ واحدة ننظر بها إلى الشركات أو الأعمال التجارية. فعلى سبيل المثال، إذا تحدثنا عن الشركات العاملة في مجال البرمجيات قد نجد أنفسنا على سبيل المثال نعتمد على نموذج أعمال"SaaS"، ذلك النموذج الذي يوفر البرمجيات للعملاء عبر الإنترنت بدلاً من تثبيتها على أجهزتهم، أو على أي منصةٍ أخرى تعتمد على نموذج العمل القائم على الاشتراكات. بالرغم من أن استخدام مثل هذه التصنيفات القياسية يعد مفيدًا في تنظيم المعلومات وتوجيه الخطط، إلا أنها تقيِّد التفكير الإبداعي إذا ما تم الاعتماد عليها بشكلٍ حصري دون استكشاف طرقٍ مبتكرة ومفاهيم جديدة في العمليات التجارية. لذا فإنه من الضروري التحرر من تلك التجارب المعتادة حتى نصل إلى فهمٍ أكثر عمقًا حول الأعمال التجارية.

شون براون: من برأيك يتحمل مسؤولية تحديد الأهداف الجريئة؟ هل هي مسؤولية الرئيس التنفيذي أم قائد الابتكار؟

تشارلز كون: لقد أثبتت التجارب أن النجاح يتحقق عندما تكون لديك هياكل تنظيمية مكونةٍ من عددٍ قليل من الطبقات الإدارية، عندها يمكن للعقول المبدعة الاجتماع بشكلٍ منتظم، بما يسمح لهم بتبادل الأفكار على كافة المستويات الإدارية. كما يجب عليك السعي لتحقيق التوازن بين التخطيط الدقيق المدفوع بالطموح نحو النمو من جهة، والجرأة على استكشاف المجالات الجديدة والاستفادة من الصدفة الإبداعية من جهةٍ أخرى. وفي النهاية عليك أن تكون حذرًا وواعيًا في تحليلك للأمور من كافة الزوايا، مستغلًا في ذلك ما قد تأتي به الصدف إليك لتحقيق نتائج مبهرة، دون التمسك بالتخطيط الدقيق في كل خطوة.

شون براون: كيف يستطيع المدراء التنفيذيون الحصول على هذا النوع من الأفكار داخل منظماتهم؟

تشارلز كون: يجب أن يشعر الموظفون أن هناك من يُنصت لهم ويقدّرهم. كما يجب على الشركات القيام ببعض الإجراءات التي من شأنها تطوير بيئة العمل بشكلٍ إيجابي، كأن تتبنى الشركة سياساتٍ وهياكل تحفز على الابتكار لتشجيع الموظفين على التفكير دون خوفٍ من العقاب، مع ضرورة إعطائهم الوقت والمساحة الكافيَين للتفكير والتجربة. ومن تلك الإجراءات المحفزة على الإبداع، حرص الإدارة على مكافأة الموظفين عندما تسفر أفكارهم عن نتائج إيجابية تسهم في رؤية الأمور من زوايا جديدة تدعم أهداف الشركة التوسعيّة.

شون براون: وكيف تتمكن من جعل المستثمرين يسلكون هذا الطريق، خاصةً إذا كان اهتمامهم مُنصبًا على النتائج الرُبعيّة الفورية؟

تشارلز كون: دعونا نتفق على أهمية الشفافية والصدق في التعامل مع كلٍ من المستثمرين والجمهور. إذ أنه من الضروري أن يتم توضيح الخطط الاستثمارية بشكلٍ واضحٍ وصريح، مع مراعاة عدم تضليل المستثمرين بوعودٍ غير واقعية. فإذا كنت تنتوي على سبيل المثال "تخصيص 20 في المائة من استثمارك في عملية جمع الأفكار الجديدة من مصادرٍ متعددة داخل المجتمع"، أو "تخصيص 10 في المائة من استثماراتك لتنفيذ الأفكار الطموحة أو مواجهة التحديات غير المألوفة"، فمن الضروري أن تنقل هذه المعلومات للمستثمرين بمنتهى الوضوح. إن التعامل الشفاف والصادق بشأن استخدام الأموال وتوجيهها نحو الأهداف المحددة، هو الأساس لبناء علاقاتٍ مستدامةٍ وقوية مع هؤلاء المستثمرين.

"نحن نحترم أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بالبصيرة والقدرة على المخاطرة ليتقدموا للأمام، على عكس أؤلئك الذين يفضلون الانتظار قليلاً حتى تستقر الأمور".

روبرت ماكلين

شون براون: روبرت، هل يمكنك أن تحدثنا عن النمط التالي من التفكير، وهو ما يُعرف بالسلوك الحاضر، الذي يعتمد على خلق بياناتٍ جديدة مع العمل على تجربتها؟

روبرت ماكلين: إن هذا النمط من التفكير يعتمد بشكلٍ رئيسي على البيانات والمعلومات الحديثة أو الحالية عند اتخاذ القرارات، بدلًا من الاعتماد على الفرضيات السابقة. تمامًا كما هو الحال مع قاعدة "بايز" التي يعرفها كل من درس الإحصاء، والتي تنص على ضرورة تحديث الأفكار بناءً على البيانات الجديدة وذلك من خلال مجموعةٍ من الاختبارات، مثل اختبار (A/B) المُستخدَم في قياس تأثير التغييرات المحتملة على سلوك المستخدمين أو العملاء، أو الاختبارات التجريبية أو غيرها من الأدوات الجديدة. حيث يعتبر هذا النمط من التفكير هو الأساس لاتخاذ القرارات بشكلٍ أفضل وأكثر فعالية. إننا نرى أن هذا النهج هو الأمثل عندما تواجهنا درجاتٌ عاليةٌ من انعدام اليقين، ومع ذلك، فإن عدم وجود مستوى كافٍ من التجربة، يدفع ذلك بعض الأفراد نحو الانتظار حتى تستقر الأمور، بدلاً من المخاطرة لاستكشاف الفرص المحتملة. كما يجب علينا أن نحترم أولئك الذين يمتلكون الرؤية والبصيرة، ويتحملون المخاطر من أجل التقدم للأمام، بينما يُفضل غيرهم الانتظار قليلاً قبل اتخاذ أي خطوة.

شون براون: بالتأكيد ستشرح لنا كيفية الوصول إلى تلك البيانات الجديدة عند مَعرِض حديثنا عن النمط التالي من التفكير، والذي يتعلق بالاستفادة من الذكاء الجماعي. فهل يمكن أن تخبرنا المزيد عن ذلك.

روبرت ماكلين: في البداية يجب علينا أن نصحح المفهوم الشائع عن الذكاء الجماعي حتى يتسنى لنا الاستفادة منه بطريقةٍ فعالة، فهذا أمرٌ بالغ الأهمية. إن الشائع عن الذكاء الجماعي هو القيام بجمع الأفراد الأكثر ذكاءً للعمل معًا على مشروعٍ معين. ولكن هناك من له وجهة نظرٍ مختلفة بعض الشيء، حيث يرى بيل جوي، مؤسس شركة "سان ميكرو سيستمز" ، أن الطريقة الأكثر فعاليةً، هي بأن تعمل على إنشاء بيئةٍ تجذب إليها أذكى الأفراد في العالم للعمل على تحقيق أهدافك الشخصية. وهنا يظهر الفارق بين الاعتماد على موظفيك الحاليين فقط وبين جذب الخبراء من خارج المؤسسة. فعندما تعتمد على موظفيك الخاصّين فقط، لن تتمكن أبدًا من تلبية جميع احتياجات عملائك. وبالتالي، عليك استغلال خبرات الجماعة بشكلٍ أفضل من خلال وسائل تعاونيةٍ أو تنافسية، وخصوصًا عند استخدامك للتكنولوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي.

ولنأخذ مثالًا توضيحيًا لكيفية استخدام الذكاء الجماعي في حل معضلةٍ ما. لقد كانت إحدى جمعيات الحفاظ على الطبيعة في إندونيسيا تبحث عن وسيلةٍ تمكنها من رصد كميات سمك التونة التي يتم اصطيادها بشكلٍ دقيق، ولذلك فقد لجأت إلى منصة "Kaggle" التي تجمع بين الخبراء والمهتمين بعلم البيانات والتعلم الآلي. قامت الجمعية باستخدام هذه المنصة في الإعلان عن مسابقةٍ يتحدى فيها المشاركين بعضهم البعض لاكتشاف أفضل الطرق التي يمكن من خلالها تحديد أنواع التونة ورصد كمياتها بدقة. وبالفعل، شارك في المسابقة 2,293 شخص، قدم معظمهم حلولاً مبتكرةً باستخدام تقنيات التعلم الآلي، والتي تراوحت درجة دقتها ما بين 90 إلى 95 في المائة. وبفضل هذه المسابقة، نجحت الجمعية في الحصول على أداةٍ فعّالة لرصد كميات التونة في قوارب الصيد في إندونيسيا، كما نجحت في تحقيق أهدافها في الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية.

شون براون: هل يمكنك أن تقدم لنا مثالًا لمنظمةٍ اعتمدت بالفعل فلسفة "النقص الاستراتيجي"؟

تشارلز كون: بالتأكيد، ولنأخذ شركة أمازون كمثالٍ على ذلك. فعندما بدأت الشركة في تقديم خدماتها المالية للمستهلك، قامت باتباع خطواتٍ بسيطةٍ ومتواضعة بدلاً من اللجوء إلى صفقاتٍ كبرى كالاستحواذ على بنكٍ كبيرٍ أو مؤسسةٍ مالية مثلًا. وبدأت بتقديم خدمة "Pay With Amazon" واستثمرت في شركة صغيرة تدعى "Bill Me"، ثم قامت بالاستحواذ على شركة "TextPayMe". ولم تتوقف خطوات الشركة عند هذا الحد، بل قامت أيضًا بتوظيف فريقٍ من شركة "GoPago"، وأطلقت نشاطًا تجاريًا يعرف بـ "Local Register".

إن ثلاثًا من هذه الخطوات الأولية التي أقدمت عليها أمازون بدت وكأنها لم تحقق النجاح المأمول في البداية. ومع ذلك، وفي غضون تلك الفترة، دأبت الشركة على تعزيز الكفاءة الداخلية وبناء قدرات التوظيف لديها، كما قامت بالاستحواذ على حقوق الملكية الفكرية، كبراءات الاختراع وحقوق الطبع والنشر. حتى وصلت لأهدافها في النهاية وأطلقت خدمة "Amazon Pay" وخدمات بطاقات الائتمان الخاصة بها. وفي النهاية تمكنت الشركة عن طريق خطواتٍ بسيطةٍ، من تحقيق نجاحٍ منقطع النظير لتحجز لنفسها مكانًا كلاعبٍ أساسي في مجال الخدمات المالية للمستهلك.

شون براون: "تشارلز"، هل بإمكانك أن تشرح لنا نمط التفكير الأخير، والذي هو "أظهِر وأخبِر"؟

تشارلز كون: الفكرة الرئيسية هنا، هي أنه عليك أن تكون أكثر إقناعًا إذا أردت الحصول على الدعم الكافي للأفكار الخاصة بك. سأعطيك مثالًا لتوضيح الأمر، عندما اجتمع كلٌ من "روبرت" وجمعية الحفاظ على الطبيعة مع أحد المتبرعين الكبار من أحد البنوك، قاموا بتنظيم عرضٍ ذكي، حيث أحضروا 17 دلوًا من البلاستيك سعة الواحد منها 10 ليترات، وقاموا بوضعها في الخلفية على طاولةٍ جانبية. وعندما سألهم بعض الأشخاص من البنك عن ذلك، أجابهم "روبرت" بأنهم سيتحدثون عن ذلك لاحقًا. كان ذلك العرض بهدف جمع التبرعات لبناء شعاب المحار داخل بعض المجاري المائية التي تعاني من التلوث. وبالفعل أظهرت الأبحاث أن كل محارٍ يمكنه تنقية 170 لترًا من الماء يوميًا. ولكن اتباع هذا النهج البصري الذي قام به "روبرت" ورفاقه، كان له تأثيرٌ قويٌ للغاية في إقناع المتبرع. وهذا يعني ضرورة ألا تكتفي بالجانب التحليلي فقط عند الحديث، بل إن التعامل مع قيم ومعتقدات الناس بشكلٍ أكبر له تأثيرٌ أبلغ وأقوى من مجرد التحدث معهم بالطريقة التحليلية فقط.

شون براون: هل من نصيحةٍ أخيرة تود أن تضيفها في نهاية حديثنا؟

روبرت ماكلين: بالتأكيد، إذا كانت هناك نصيحةٌ أقدمها، فهي أن تُخصِّص الوقت الكافي للتأمل والتفكير العميق في طريقة عملك وفي النظرة التي تحملها تجاه العالم من حولك. ثم بعد ذلك، قم بطرح مجموعةٍ من الأسئلة الهامة والجريئة بعض الشيء، على سبيل المثال: هل نقوم فعلاً بطرح الأسئلة التي يمكن أن تُعدّل أو تُحسّن من خططنا واستراتيجيتنا للأفضل؟ هل نتقبل وجهات النظر المختلفة؟، أم أننا متحيزون لرؤيتنا الخاصة في تحليل الأمور؟ هل نعتمد على الاحتمالات في اتخاذ القرارات بدلاً من افتراض اليقين؟ هل يمكننا فعلاً أن ننظر إلى استراتيجيتنا كخطةٍ مرنة، تتقدم بحذرٍ نحو تحقيق أهدافٍ محددة، مع مراعاة العقبات التي قد تواجهنا؟ إن هذا النوع من الأسئلة هامٌ حقاً، لأنها تقدم تشخيصًا دقيقًا نوعًا ما لكيفية التعامل مع مستويات عدم اليقين. ليس هذا فقط، بل إنها توجهك نحو وضع الاستراتيجية المثلى للتعامل في ظل هذه الظروف المضطربة.

Explore a career with us